فن الأشكلة في تدريس الفلسفة
نود في هذا المقال بحث طبيعة الدرس الفلسفي من خلال تركيز النظر على تدريس الأشكلة الذي يعد كفاية أفقية توحد كل الموضوعات و الأنشطة المدرجة في المقرر و النواة المركزية لتدريس الفلسفة تبعا للبراديغم الفرنسي للكتابة الإنشائية الذي يسمح بتحديد و فهم و بناء مشكل فلسفي معين.
إذا كانت المشكلات الفلسفية ( من قبيل ماهية الحقيقية؟ هل هي نافعة و ممكنة؟ ) تجد مستقرها في تاريخ الفلسفة، و تأخد شكلها الفعلي من خلال بناء متدرج عبر هذا التاريخ، يمكننا بالتالي تدريس هذا الثراث للتلاميذ؛ و غالبا ما يغيب عن أذهاننا أن تاريخ الفلسفة يعلم التلاميذ طريقة أو طرقا للتفكير، و قدرة على تحديد بعض المشكلات و طرحها بشكل أكثر عمقا و التعرف على بعض الأجوبة المقترحة. و من المؤسف له طغيان نزعة لاتاريخية ذات عمق بنيوي ووظيفي توجه بيداغوجيا الفلسفة، تدير الظهر لتاريخ الفلسفة، و غالبا ما تتعسف على هذا التاريخ، و تفرغ الدرس الفلسفي من عمقه الفلسفي، لأن الفلسفة هي حركة الروح الفلسفي في تاريخيتها.
ما يهمنا أكثر في بحثنا للأشكلة هو التركيز على التمفصل الحاصل بين تعليم الأشكلة و تعلمها. و يمكن أن نضع هنا فرضية ديداكتيكية: أن تدريس الأشكلة يمكن أن يفشل في تحقيق أهدافه إذا لم يأخذ بعين الاعتبار معطيات التعلم لدى التلميذ؛ إذ لا يكفي تحديد المشكلات الفلسفية داخل تاريخ الفلسفة و عرضها على التلاميذ من طرف الأستاذ، لا بد من تشخيص مجموع الصعوبات التي تعترض التلاميذ أثناء ممارسة الأشكلة عبر أنشطة واعية و هادفة.
1. تدريس الأشكلة:
ما ذا نعني بتدريس الأشكلة؟
يقدم رونو دوكا تحديدا أوليا لهذا المعنى الذي نبحث عنه:
الأشكلة هي تفسير و بيان لمشكل فلسفي، من خلال تحديد الرهانات و المواقف الفلسفية التي يتضمنها.
يمكن حصر طريقتين لفهم هذا التدريس.
الطريقة الأولى:
تستند إلى تاريخ الفلسفة و المذاهب التي يعرضها ،و نشرح هذا الأمر بالقول مثلا: إن الأشكلة عند ديكارت من خلال كتابة التأملات الميتافيزيقيةهي تفكير ذاتي، و تدشين تساؤل في صيغة شك منهجي و جذري إزاء معتقداتنا و أفكارنا المكتسبة.
و أن نبرهن على أن تحصيل الحقيقية غير ممكن بالاكتفاء بالمعرفة المعطاة من طرف حواسنا وخيالنا، لكن الفهم هو الطريق الوحيد الذي يقود إلى اليقين.
إن ماهية الإشكالية تتكتشف من خلال فحص الطريقة التي اعتمدها الفيلسوف، أو الطرق التي اعتمدها الفلاسفة، كل من جانبه، و بشكل شخصي في بناء تساؤلاتهم و مشكلات بحثهم.
الطريقة الثانية:
تستند هذه الطريقة إلى بناء المفهوم و تحديده فلسفيا و أشكلته من الداخل، و الكشف عن رهاناته الميتافزيقية و الأخلاقية؛ يمكن أن نقدم مثالا من خلال التعريف الذي يقترحه ن. غو على تلاميذه:
»الأشكلة صياغة المشكل... إذا كنا نخلق مفاهيم و تصورات لأن سيرورة بناء المشكل تحتاج لأدوات و مواد لكي تتقدم ... و لأن معطى الثقافة في غالب الأحيان يكون عبارة عن أراء و معتقدات جاهزة و مقبولة من طرف الجميع إلى حد أنها تخلق شعورا مشتركا بامتلاك الحقيقة.
لا يكفي معطى الثقافة المشتركة لفهم و تفسير الواrع في شموليته و ممانعاته؛ يستلزم الوضوح تحديدا لحدود وسائلنا الممكنة لفهم و تأويل الواقع.
إن طرح مشكل فلسفي هو أن نمنح أنفسنا الوسائل و الفرص لتجاوز حدود ما نعتقد معرفته، و هو ما يمنعنا في العمق من المعرفة؛ و من إمتلاك رؤية جيدة؛ و كل الوسائل التي تضمن لنا العيش الحر وتحمل مسؤولية الدوار و التيه الذي نقع ضحية له لحظة تخلينا عن الأوهام المريحة و العذبة لأجل مواجهة ممانعات الواقع و قساوته ... «
و إذا وضعنا جانبا التعريف الأكاديمي و المدرسي، أعتقد بإمكاننا تعريف الأشكلة في العمق بأنها القدرة على الاحتفاظ الدائم بيقظة الذهن بعيدا عن السكون، وعلى بلوزة مفاهيم و تساؤلات باستمرار مع القدرة على مسألة هذه المفاهيم و التساؤلات و طرق بلورتها كما هو الحال في الجينالوجيا عند نيتشه التي تفضح باستمرار أصور غريزة الحقيقة و إرادة البحث عنها.
و من جهتي كأستاذ للفلسفة إن طرحت مشكلا فلسفيا يعني هذا أنني أطلب الكشف عن السبب الذي يجعل الحياة قابلة لأن تعاش باعتبارها موقفا ذاتيا و طريقة للوجود، أتحمل مسؤولية بناءها و إعادة بناءها باستمرا، حيث لا أحد يملك الجواب المطلق و الحكمة الكونية، و حيث أن العالم لا يقدم نفسه لي إلا تبعا للشكل الذي أحدده » أنا « يبدو لي أن طرح مشكلات فلسفية يعني ضرورة أن نحيا هذه المشكلات كلحظات قوية وعاصفة تسحق الاستقرار السهل الذي تمنحنا إياه الثقافة الاجتماعية، و أن نخرجها من القوة إلى الفعل و تحمل العناء و المشقة البالغة التي يقتضيها ذلك. فعل الأشكلة شاق ومزعج ويتطلب شجاعة نفسية و يبتعد عن أشكال المتعة و أوضاع الرفاهية التي يعدنا بها المجتمع البرجوازي و الاستهلاكي و المجتمع المؤسساتي و الأكاديمي، و يقتضي الذهاب بعيدا حتى النهاية الممكنة كما هو قدر لاعب القمار الذي يكون مستعدا إذا ما خسر كل نقوده أن يراهن حتى بقميصه. لكن في الفلسفة على خلاف القمار لا نخسر أي شيء، وإن خسرنا نخسر شيئا غير مهم بالنسبة لنا.
حين يتم إفراغ الفكر، على الطريقة الديكارتية لمسح الطاولة، يكون فكرنا في النهاية مهيا للحدس و التأمل و قادرا على بناء التصورات و المفاهيم الضرورية لاقتحام الواقع بشكل مناسب.
إن الأشكلة أشبه بوضع الذات و العالم كله فوق طاولة اللعب و المراهنة، و أن نكون على استعداد لخسارة كل شيء إذا اقتضى الحال ذلك. و هي النتيجة التي تحملها دوما الفلاسفة ديكارت في التأملات و بسينوزا في الأخلاق ونتشه في أفول الأصنام. لا يكون الإشكال ممكنا إلى على ضرورة إرادة داخلية للإجابة على السؤال ما الذي يجعل الحياة تستحق أن تعاش.
من هذا المنظور الذي تقدمه الطريقة الثانية، قد نفهم تدريس الأشكلة كاستعراض أمام التلاميذ لتصور و ممارسة ذاتية لبناء مشكلات فلسفية، من طرف الأستاذ كنموذج يجب اقتفاء أثره.
يمكن أن نضيف طريقة ثالثة لتدريس الأشكلة كمنهج للتفكير الفلسفي من خلال اقتراح تمارين هادفة على التلاميذ نجدها كثيرة في الكراسات التحضيرية للامتحان في الإنشاء الفلسفي.
و إن كانت هذه الطريقة تلتقي بالطرق السابقة في الهدف و بعض الإجراءات، إلا أنها تختلف عنها لكونها لا تخاطب التلاميذ كفلاسفة ومفكري المستقبل و إنما كمترشحين لامتحان مدرسي يستبد هاجس النتيجة بعقولهم.
تكون الأشكلة، كما هي معروضة في الكراسات المدرسية، موضوع تحويل ديداكتيكي؛ أقصد بالتحويل الديداكتيكي، الطريق التي يكون بها بحث مادة لتعليم أو اكتساب في المدرسة؛ ينتج عن هذا التحويل ( التحول) من بحث أصيل إلى قواعد و نتائج بحث مدرسية نوع من التطويع و إعادة بناء المعرفة العالمة لتكون قابلة للاستهلاك السهل؛ فاعتماد الإنشاء الفلسفي كنمط للتقويم يدخل في صلب هذا التحويل الديداكتيكي، يقود إلى صياغات صورية لمطالب الأشكلة كلحظة أولية في بناء الإنشاء.
و نلاحظ أن الوثائق الرسمية و الكراسات و جدادات الأساتذة تتضمن قواعد و توجيهات تضمن النجاج في ممارسة الأشكلة، هناك توافق عريض بين المشتغلين في درس الفلسفة على ضرورة إجراء المشكل الفلسفي في المقدمة، لأن كل التفكير الذي سيأتي لاحقا هو بحث عن جواب لهذا الإشكال، لكن الاختلاف بينهم قائم حول طرق تدريس الأشكلة، منهم عدد كبير من الأساتذة لتاريخ الفلسفة يتصورون أن المشكلات الفلسفية هي جزء من تاريخ الفلسفة، و معنى أن نعلم التلميذ الأشكلة هو أن نقدم له هذه المشكلات اولا، و أن نمكنه من تشخيص القضية المعروضة عليه في منطوق موضوع الإمتحان، و ثانيا أن نعلمه كيف يختار المشكل الفلسفي التاريخي الذي ينسجم مع القضية.
يفترض هذا التصور أن المشكلات الفلسفية ملكية محفوطة الحقوق للفلاسفة في سجل التاريخ الفلسفة، و لا يجوز اصطناع أو تقليل هذه المشكلات بشكل ذاتي مزيف.
بالنسبة للبعض الأخر، يستدعي طرح مشكل فلسفي إعادة بناء لهذا المشكل من خلال مخطط يحاكي الطريقة التي تم من خلالها طرح هذا المشكل من طرف الفيلسوف( داخل تاريخ الفلسفة).
البناء هو عمل هادف يفترض أن التلميذ يتصور من تلقاء ذاته مشكلا مركزيا، و يدرك الصعوبات التي تحف به و يشخص التعارضات المستمرة التي تخترق البحث لكن هذه المهام تبقى في نظر أغلب الأساتذة فوق طاقة التلميذ من هنا يظهر أن الموقف فوق طاقة التلميذ من هنا يظهر أن الموقف الأول أكثر معقولية لأنه ينسجم مع إمكانيات التلميذ، و يقلل من حجم الصعوبات التي تواجهه يوم الإمتحان؛ لكن يكون الإشكال الفلسفي، في الحالتين معا، سواء كان مبنيا أو مكتشفا، السند الأساسي لسير العمل من بدايته حتى نهايته.
و يمكن تعريف الأشكلة بإطلاق المعنى كما ورد عند جاكلين روس بأنها فن إبراز المشكلات، أو طرح التساؤلات الفلسفية الكبرى كموضوع للتفكير الذاتي.
الأشكلة من زاوية التعقيد الديداكتيكي هي سيرورة تنطلق من وضعية معطاة ( سؤال، أو قول، أو نص) لاكتشاف المفارقات التي تتضمنها، و صياغتها في تساؤلات، و الكشف عن رهاناتها، و استكشاف الأفاق النظرية الممكنة لحلها.
يتعلق الأمر في نهاية المطاف بتحويل ديداكتيكي، و إبداع فلسفي مدرسي في شكل إنشاء، لأن الفلاسفة لم ينجزوا إنشاءات فلسفية باستثناء جون جاك روسو و إيمانويل كانط كما أن الإنشاء الفلسفي هو ثمرة للتاريخ، لأن الإنشاء كما هو متعارف عليه اليوم هو صناعة فرنسية بامتياز تعود إلى نهاية القرن 19، و على الرغم من وجود بعض الأشكال الديداكتية الأخرى للإنشاء الفلسفي عبر العالم إلا أنها لم تستطع أن تبلغ مستوى جودة و احترافية النموذج الفرنسي، لأن حراس المؤسسة الفلسفية في فرنسا استطاعو صياغة براديغمات لتعليم التفلسف عبر الإنشاء كمعطى تراثي لا غنى عنه في تدريس الفلسفة.
2 ـ التعلم الذاتي للأشكلة:
من خلال الصيغ السابق، حيث تدرس الإشكالية كمحتوى تاريخ و مذهبي، أو كمضمون منهجي يعتقد الأستاذ أن طريقة هذا الفيلسوف أو مجموعة من الفلاسفة، أو طريقته الخاصة في بناء إشكالات الدرس أو في اقتراح نماذج لتصحيح الامتحانات مع تلاميذه في الفصل يمكن أن تكون نماذج على درجة كبيرة من المثالية يستحسن أن يقتفي التلميذ أثرها بغية تعلم الأشكلة.
الأشكلة هي الإجراءات الفكرية التي نستشكل بها قضية ما. لكن ما معنى أشكل؟
ها هنا سؤال حول المعنى و التعريف و من شأنه أن يطرح مشكلات حقيقية، لا نود الخوض فيها الأن، و نوثر القول: لكي يتعلم التلميذ الأشكلة يجب أن يحصل من الأستاذ على تعريف دقيق لها، و على نماذج أو أمثلة سواء كانت من صلب تاريخ الفلسفة أو من عمل الأستاذ، أن نطلب من التلميذ على سبيل المثال أن يسترشد بالشك الديكارتي لمساءلة الاعتقادات و الأحكام المسبقة المحصلة من الوسط العائلي و الاجتماعي، و من مجموعة الأقران و من وسائل الإعلام و أن نفسر له كيف يبني و يكتشف هذه التساؤلات العميقة، و يجب أن نقدم أمامه بعض النماذج لفلاسفة أو لأجوبة مصححة، و أن نطلب منه إعادة صياغتها و محاكاتها بأسلوب خاص.
لكن المأزق الذي يجب الانتباه إزاءه هنا، هو عدم كفاية إلقاء عرض إخباري حول الشكل الذي كان يتبعه ديكارت في بناء تساؤلاته، و لا تقديم نشرة من النصائح أو القواعد لحسن إنجاز الأشكلة من شأنها أن تحفز التلميذ، و تخلق لديه رغبة في الأشكلة. و مادام أن الأمر ببساطة هو تعلم و اكتساب فواجب أن يتوفر شرطانه:
الأول الرغبة و الثاني الكفاية التي تتطلب البناء إنطلاقا من أنشطة فعلية؛ و داخل هذا المنظور لا يصبح الأمر مقبولا في هذه الصيغة الساذجة؛ لنعلم التلاميذ الأشكلة حتى يتمكنوا من إنجازها.
لا يكفي أبدا، و تبعا لنوعية التلاميذ، أن نلقنهم معارف لكن يطوروا كفايات، فالمعارف لا تصبح إجرائية إلا إذا تم تحريكها و اسثتمارها في أنشطة، أي في موجهة عناد الواقع، و هنا عندما يتعلق الأمر بالأشكلة ووضع الاعتقادات محط تساؤل و تشكيك نكون بصدد موقف صعب نتحمل مسؤوليته و تبعاته النفسية و الأخلاقية و الاجتماعية.
عندما نطرح المسألة من زاوية ديداكتيكية، و بتخصيص أكبر، من زاوية الديداكتيكا النشطة، مذا يعني تعلم الأشكلة بالنسبة للتلميذ؟ هل يمكن تعليم الأشكلة؟ نميل أكثر إلى اعتماد عبارة التعلم بدل التعليم لأنها على الأقل تقدم التلميذ في صورة نشطة، و في وضعية يكون هو فيها طرفا فعالا. إذن تعلم الإشكالية لا يعني أكثر من فعل ذاتي يقوم به التلميذ لاكتساب أصول فن الأشكلة.
نحن هنا في عمق ثورة كوبرنيكية في مجال البيداغوجيا، أن يأخذ الأستاذ موقع التلميذ لكي يفهم تعلم الإشكالية من زاوية نظر التلميذ، و لكي يفهم بدرجة ثانية مجموع السيرورات الذهنية و النفسية التي يحركها التلميذ في وضعيات التعلم بشكل عام؛ و تعلم الأشكلة بشكل خاص، و فهم طبيعة الصعوبات التي تعترض هذا التعلم.
أفترض أن الأشكلة بما هي كفاية فكرية تتطلب خلقا و تطويرا عبر أنشطة متنوعة، و هادفة، و متدرجة، لكن الصورة السلبية الشائعة اليوم بين المهتمين بالبيداغوجبا تقدم مقاربة التدريس بالكفايات كنزعة تقنوية و تحكمية أكثر من مقاربة التدريس بالأهداف.
لهذا نكون مضطرين في الكثير من الأحيان إلى التحفظ و الاحتراس من استخدام كلمة الكفاية فالأشكلة من زاوية نظر ديداكتيكية هي قدرة أساسية فلسفية إلى جانب قدرات أخرى المفهمة و المحاججة لتعلم التفلسف داخل أنشطة مركبة و متعددة تضع دائما علاقتنا مع الواقع محفظ تساؤل و نقد.
يتجه الاهتمام منذ 1998 في فرنسا إلى البحث عن صيغ بيداغوجية بديلة، تتضمن حرية أكبر ونشاطا حقيقيا لتعلم التفلسف بشكل أصيل، داخل المقاهي الفلسفية، و الجامعات الشعبية و المدارس الاتبدائية و الإعداداية و يبدو مشجعا أن نتائج هذه التجارب الجريئة بدأت تعطي ثمارا ناضجة جدا؛ ربما ساعد في ذلك غياب مقررا رسمية، و غياب المراقبة المستمرة و أشكال التقويم ( الامتحانات )، و الاشتغال بحرية داخل وضعيات يشعر فيها كل واحد بمتعة، كما أن اعتماد طريقة الحوار و النقاش بدل الكتابة، كلها عوامل تغيب بقدر كبير في الثانويات الرسمية بفعل النزعة المؤسساتية التي تعشش من هذه المحاولات لإعادة تحديد الأهداف، و فهم و ممارسة مهنة أو فن تدريس التفلسف.
يجب أن نركز الاهتمام داخل إجراءات الأشكلة على المكانة التي يحتلها التساؤل وراء السؤال؛ لأن التساؤل هو الذي يرسم اتجاها و يضفي معنى و دلالة للبحث الجاري.
يكون التساؤل مطلوبا من جهة التلميذ كنشاط حيوي، و معاشا بشوق كمتعة و اكتشاف كلما كان بعيدا عن الإكراه المدرسي، ألا يكون مقترحا من طرف الأستاذ أو خاضعا لتوجيهات تحكمية تبعا لمطالب الإمتحان؛ بل يجب أن يعبر التساؤل عن ضرورة داخلية و استجابة لحاجة ذاتية، ويطرح رهانا وجوديا بمجرد إثارة هذا التساؤل.
لا بد للوضعية التساؤلية أن تضع التلميذ في نواتها كذات مفكرة، تمارس تجربة الكوجيطو بطريقتها الخاصة شرط أساسي لاقتحام سيرورة الأشكلة.
لا يمكن اختزال التساؤل في طرح السؤال، خصوصا السؤال الذي يواجه التلميذ يوم الامتحان، و غالبا ما يلاحظ الأساتذة المصححون غياب التساؤل أو الإشكال داخل إنجازات التلاميذ، لأنها تستسلم لسؤال المطروح، أو تعيد كتابته بمفردات أخرى سطحية. لكن السؤال لا يكون واضحا حتى في ذهن من يطرحه، و دلالاته و قيمته تتحددان انطلاقا من نشاط ذات مفكرة تكشف عن مفارقات، و إحراجات مزعجة تتطلب فحصا، و تسوية، وابتكارا لحل من خلال لغة و مفاهيم؛ و تفكير منظم يقنع ذاته و ذات المتلقي، و يوجه من جديد نحو أفاق أخرى.
فالأشكلة من هذا المنظور أشبه بطريق يشقه و يعبده تساؤل أصيل. و الشروع في الأشكلة هو الشروع في السير على طريق التفلسف، و يجب ألا نقطع هذا الطريق أو نجعله غير سالك بفعل تضخم ديداكتيكي أو إفراط في تعقيد مؤسساتي.
و لا يخفى على أحد أن التزام التلاميذ بالقواعد الديداكتيكية و المنهجية في كتاباتهم يوم الامتحان لا يضمن ممارسة تفكيرية أصيلة و متسائلة. فالتساؤل الفلسفي الأصيل يخص ذاتا في حريتها، و إرادتها و طريق تموضعها إزاء العالم بطريقها الخاصة، و لا يمكن أن نضع قواعد لهذا التموضع لأننا لسنا في وضعية تعليم رياضة كرة القدم أو الشطرنج.
خاتمة:
نميل، لختم هذا المقال إلى اعتبار الأشكلة بمثابة اقتحام لفعل التساؤل الذي يسكننا كمشكل مفتوح، لأننا نشعر باستمرار بالضرورة الوجودية و التفكرية الملحة لحل لغز يواجهنا و نحن كائنات فانية توجد في العالم، وعلينا مواجهته، و تحمل تجربة المواجهة كتأسيس لوضع و موقف وجودي أصيل.
و إن كانت المؤسسة تفرض علينا أن ننخرط بشكل سيزيفي في منطقها التحكمي، و أن نضع إطارا مرجعيا لقواعد الأشكلة و التساؤل كحركات قابلة لتشخيص و القيام، فإن رهانات تعليم التفلسف تقتضي منا أن نتساءل باستمرار حول موقعنا داخل الرقعة، و الأدوار المحددة لنا سلفا، من أجل توسيع دائرة الإرادة و الحرية، و الفعل بدل الإنفعال.
تفرض عليها هذه المهمة أن نتملك ممارستنا، و أن نتحول إلى فلاسفة بيداغوجيين (فلاسفة تدريس الفلسفة) و أن نتخلى عن دور الحكيم و الأستاذ لأن نصبح مرافقين و منشطين، نمسك بيد التلميذ على طريق التفكر، عوض أن نسير أو نفكر بدل له، لكن هل نقدر على قهر المؤسسة، و إعادة بناء الفلسفة كمدرسة للحرية؟ لنجرب إذن.
|