أوهام ديداكتيك الفلسفة
محمد سعد
نود في هذا العرض أن نقدم تحليلا نقديا لبعض المقولات التي تحرك اليوم، في فرنسا على الخصوص، حقل ديداكتيك الفلسفة:
المقولة الأولى تعتبر ديداكتيك الفلسفة هي جزء من الفلسفة.والمقولة الثانية تعتبر أستاذ الفلسفة مؤلف درسه.
غير أن أفكارا من هذا النوع، حتى و إن كانت تتضمن قدرا محترما من الصدق فإنها تحولت إلى قناعات دوغمائية منفلتة من أي فحص نقدي، و أصبحت بالتالي تعيق سير التفكير الديداكتيكي.
بخصوص المقولة الأولى، يكون المشكل الذي يواجهنا بداية هو تحديد المعنى، إذا كان الأمر لا يتعدى معنى أننا في الدرس الفلسفي لا نمارس إلا الفلسفة، فالعبارة تتضمن قدرا محترما من الصدق، و ليس لنا أي مبرر لأن نختلف في مواقفنا ووجهات نظرنا، و لا أحد يمكن أن يتصور ممارسة شيء آخر غير الفلسفة في الدرس الفلسفي.
أما إذا كانت العبارة تعني أن مدرس الفلسفة عليه أن يلتزم بالفلسفة دون أن يطلب العون من أي مادة أو معرفة أخرى غير الفلسفة، فالعبارة هنا خاطئة ،لأننا نعلم أن الفلسفة تتغذى على ما هو ليس بفلسفي، و كل تاريخ الفلسفة يشهد على ذلك، فالفلسفة دوما مسكونة بفضول المعرفة، و منفتحة على المعارف و الحقول الأخرى، و تتخذها مادة لتفكيرها.من دون نيوتن لم يكن ممكنا أن يظهر كانط كفيلسوف، فحدود الفلسفة لم تكن واضحة باستمرار، و ما يمكن أن نسميه » الفلسفة الحقة « لن يعدو أن يكون مجرد وهم. إن تحليل الانفعالات و الأهواء عند ديكارت ليس إلا بحثا يتخذ صبغة سيكولوجية.
يتكشف من جهة ثانية خطأ المقولة الأولى، في الاعتقاد أن الفلسفة تفكر في ذاتها فلسفيا، و ليس لنا ما نعترض به على مثل هذا التصور، لكن ديداكتيكا الفلسفة لا تفكر في الفلسفة، و إنما في تدريسها، و من المؤكد أن جل الفلاسفة فكروا في بناء أنساقهم الميتافزيقية و بالموازاة مع ذلك فكروا في الطرق المناسبة لشرح أفكارهم، و نشرها على نطاق أوسع وسط الجمهور. و من الخطأ الشنيع أن نخلط بين الفلسفة و تدريسها إن مادة تفكير ديداكتيك الفلسفة هو لقاء التلاميذ (المتعلمين) بالفلسفة؛ من خلال بلورة الطرائق المناسبة لإعدادهم أن يكونوا فلاسفة في المستقبل. و هذا يعني أن الديداكتيك مطالبة بأن تفكر في الوسائل و المناهج التي تمكن من تلقين واضح و سهل للمعارف الفلسفية، و أن تنمي لدى التلاميذ التفكير العقلاني المنظم، و التعبير الواضح و المتناسق عن أفكارهم و البرهنة عليها، بالإضافة إلى القدرة على بحث المشكلات الفلسفية من خلال كتابة إنشاء أو تحليل نص فلسفي؛ فكل هذه المهام تتعلق بنشاط التلميذ و العلاقة بين المعلم و المتعلم.
2 ـ الاستعانة بالعلوم الأخرى:
إن النزوع الذي يسيطر اليوم على البعض، للحفاظ على الطهارة الفلسفية في وجه كل الشوائب و الاختراقات التي تتربص بالدرس الفلسفي، لا يبدوا في نظري أكثر من كونه تطرفا يتعارض مع تاريخ الفلسفة و معطيات الواقع أيضا.
في اشتغالنا مع التلاميذ على الكتابة الإنشائية نواجه بعض الأسئلة من قبيل: ما هو عدد الصفحات المطلوبة في الإنشاء ؟ و هل من الممكن الكتابة بأسلوب أدبي ؟ و ما هي مواصفات الأسلوب الفلسفي ؟ و ليس أمام مدرس الفلسفة سوى اللجوء إلى حقل اللسانيات ونظريات الخطاب، مادام تاريخ الفلسفة لا يفيد في شيء للجواب على هذه الأسئلة.
إن بعض النصوص في اللسانيات مثل » أنواع الخطاب « لباختين (1953) تفيدنا بسخاء لتدليل بعض من الصعوبات التي تواجهنا في تحديد أنماط الكتابة و مواصفات الخطاب الإنشائي؛ لكن السيد باختين ليس فيلسوفا، و إنما عالم لسانيات أو مؤرخ للأدب، لقد سبق أن كتب حول » رابليه «، هل من الضروري أن نعيد تصنيف نصه لندخله في مبحث فلسفة اللغة حتى يكون من المشروع أن نوظفه لتقديم نصائح للتلاميذ، و رسم الطريق الواجب إتباعه في تعليمهم قواعد الإنشاء، إنه لأمر شكلي للغاية، و هل من الممكن أن تصور فلسفة اللغة في استقلال تام عن اللسانيات و مباحثها الجديد. و نفس الأمر ينطبق على بعض البحوث في حقل السوسيولوجيا، من جملتها العمل الذي قام به "باتريك رايو" لفهم التمثلات التي يدرك من خلالها تلاميذ السنة النهائية للباكالوريا أدوارهم ووضعياتهم التعليمية في درس الفلسفة. كما أن العمل الناجح الذي قدمه باحثو ديدا تشيكا الرياضيات في رسم التمايزات بين الأزواج المفاهيمية: المفهوم – الموضوع، و المفهوم – الأداة، و لا يجب أن نهمل الإشارة أيضا لأعمال "جان بياجي" في حقل علم النفس المعرفي التي تمكننا من فهم جيد لسيرورات التعلم و الاكتساب لدى التلاميذ.
هل من الواجب علينا أن ندير ظهورنا لمثل هذه الأعمال القيمة بدعوى أنها لا تنتمي لحقل الفلسفة؟ و ليس من المعقول باسم النقاوة الفلسفية أن نحرم أنفسنا من المكاسب المعرفية و العلمية التي نسفيدها من مثل هذه الأبحاث في فهم ما يجري في فصولنا الدراسية و في علاقتنا بالتلاميذ في دروس الفلسفة. و إن كانت الفلسفة نفسها عاجزة على أن تقدم ذاتها في لباس فلسفي طاهر، ديداكتيك الفلسفة بدورها لا تكون أبدا فلسفية خالصة؛ و العبارة: يجب أن تخرج ديداكتيك الفلسفة من رحم الفلسفة، لا تعدو أن تكون سوى مقاومة و توجسا إزاء علوم التربية.و يطرح المشكل في نظرنا على مستويين: تنتمي كل الأبحاث المشار إليها فيما سبق لحقل علوم التربية، بمعنى أنها أنجزت من طرف باحثين يعملون داخل شعب و معاهد البحث التربوي؛ لكن من جهة محتوياتها النظرية و الفكرية تنتمي لتخصصات علمية مختلفة (علم النفس، علم الاجتماع، اللسانيات ....) كل واحد منها يحدد موضوعه و مشكلاته و مناهج البحث الخاصة به، لكنها جميعها تنتج معارف و أدوات موضوعية صالحة لأن نفهم بواسطتها ما نقوم به و ما يقوم به تلاميذنا. هل بفعل خوف مؤسساتي من علوم التربية ، أم باسم نوع من الحرب بين المؤسسات نصم أذننا في وجه ما يمكن أن تقوله لنا هذه العلوم؟ لقد حان الوقت لكي تخرج الفلسفة من أسر هذا الرفض المبهم و من هذا العجز عن التحاور مع المؤسسات الأخرى، و مع المعارف و النتائج التي تقدمها باستمرار، و هي مع الأسف على قد كبير من الموضوعية و الفائدة، وعليها أيضا أن تثق بالملاحظة والتجربة الواقعية و المعيشة.و لا شك أن هذا الرفض و العجز عن الحوار (علما ان المهمة النقدية التي تجعلها الفلسفة في قلب نشاطها يتطلب حوارا و انفتاحا باستمرار مع و على المعارف الأخرى) لن يخدم سوى النزعة الانطوائية و المحافظة التي من شأنها أن تضر بشكل فادح بتدريس الفلسفة.لنتوقف إذن عن الخوف من علوم التربية، و عن النظر إليها كرجس ، لأننا في الحقيقة نقطع الطريق عن تطور البحث الديداكتيكي في الفلسفة، و لنستثمر هذه العلوم خدمة لأهدافنا بذكاء و حس نقدي فلسفي كما عودنا الفلاسفة من أمثال كانط.
3 وضعية تشغيل المتعلمين:
أما بخصوص المقولة الثانية: أستاذ الفلسفة مؤلف درسه. نواجه ها هنا أيضا نفس المشكلة؛ تحديد المعنى المحتمل للعبارة، فلا أحد يجادل في أحقية الأستاذ دون سواه في تنظيم الحيز الزمني للتدريس، و اختيار الطريق المناسب لمعالجة الموضوعات و النصوص المقررة، و أن كل أستاذ يمارس مهنته تبعا لقدراته المعرفية و مهاراته و خواص شخصه.و إن كان المقصد هو هذا الذي شرحناه، فلا خلاف في الأمر بين الفاهمين أما و إن كان المقصود ما يكتبه الأستاذ أو العرض الذي يلقيه على مسامع التلاميذ هو نص فلسفي، فالعبارة خاطئة و فيها شر عظيم، لأنها تستحيل الدرس الفلسفة إلى حصة للإلقاء و الخطابة، و تعدم كل إمكان لاشتغال التلاميذ، بل تجعل منهم أدوات سلبية تتلقى دون أن تبادر أو تفعل غير الإنصات.
كما يفترض هذا المعنى أن تكون كفاية الإنصات اليقظ، و إدراك الإشكال، و المعارف الأساسية و التعرف على طرق و أدوات بناء المعرفة قد سبق للتلاميذ تحصيلها.غير أن هذه القدرات ليست بديهية، و لا في متناول أي من دون تعلم و تدريب و مراس و النتيجة أننا نفترض أن التلاميذ يمتلكون ما هو مقرر أن نعلمهم إياه في السنة النهائية للتعليم الثانوي. و هذه الأمور غير قابلة للتعلم بمجرد الاستماع لخطبة الأستاذ.
و قد يخيل للبعض أن ما عرضناه هنا فيه من الابتذال و السخرية الفاضحة من عمل الأستاذ و من اللائق القول بأن الأستاذ و التلاميذ هو شركاء في تأليف الدرس، لأنهم يساهمون في تطويره و تقويمه تبعا لما يطرحونه من أسئلة و ملاحظات و طلبات التوضيح.
و لا خلاف في الأمر حول هذه النقطة، إذ يشعر كل واحد منا نظريا بالفضل الجليل لمساهمة التلاميذ في إضفاء جو من الحيوية، وبث روح في درس الفلسفة.لكن من جهة أولى علينا أن نعرف كم هو عدد التلاميذ الذين ينشطون في كل قسم، و من جهة ثانية هل ترقى مشاركتهم إلى المستوى المطلوب، أم أنها أحيانا تعيق عمل الأستاذ؟ عديدة هي المرات التي أسمع التلاميذ يقولون: » إن الأمور تبدو سهلة في الفصل حينما نشتغل سويا، لكن حينما نكون لوحدنا ننجز الإنشاء تصبح الأمور شاقة«.و لا بد في حقيقة الأمر أن نشك في مضمون هذه العبارات من قبيل » اشتغال التلاميذ « و أنهم » شركاء « في الدرس، ليس لأننا نطلب أن يكون الدرس عملا خاصا بالأستاذ لوحده، فهذه الطريقة أصبحت بائدة، و الجميع يدرك الضرر الذي تلحقه بتعليم الفلسفة؛ و لكننا نطلب أمورا كثيرة و بعيدة؛ من قبيل أن يكون نشاط التلاميذ في عمقه فلسفيا سواء عبر تمارين في الفصل أو في البيت؛ و العبرة لنا فيما يقوله اليوم المختصون في ديدا تشيكا الرياضيات عن ضرورة وضع المتعلمين في أوضاع متأزمة دون أن نقدم لهم المشكلات جاهزة.ترشح هنا كل المشكلات الديداكتيكية الخاصة. كيف نضع التلميذ في وضعية البحث سواء كان بمفرده أو مع زملائه بصدد مسألة أو وضعية معرفية يكون عليه اكتشافها و السير في أرجاءها حتى يجد سبيله لبناء المشكل؛ و كل ما يستدعي ذلك من تيه و تردد و تعثرات حتى يكتشف من تلقاء نفسه لماذا و في أية حدود يوجد هناك مشكل فلسفي، و أن يضع فروضا للجواب على المشكل؛ و أن يبلور المفاهيم و التصورات الضرورية لهذا الحل ؟ يشترط كل هذا أن يظل الأستاذ صامتا طوال هذا العمل و أن يمتنع عن إلقاء الخطب التي تحمل في جوفها المشكلات مبنية و الحلول جاهزة ،و أن يقصر عمله من جهة أولى قبل أن يلج الحصة على البحث عن وضعيات تعليميمة، بل اختراعها ، و من جهة ثانية، أثناء الاشتغال أن ينصت لما يقوله التلاميذ أثناء انهماكهم في العمل فرادى أو جماعات، و أن يتدخل لأجل دفع النقاش و بث روح جديدة فيه إذا ما تبين أن تلميذا أو بعض التلاميذ يميلون لحصره أو الاقتراب من خنقه و الحسم في المشكلات قبل البلوغ إلى التخوم المعقولة، أو أنهم يسندون أفكارهم بآراء ظنية و حجج واهية أو براهين سفسطائية في مبناها و مضمونها.
و عليه أن يقودهم لاكتشاف مواقع الخطأ في عملهم و أن يفكروا في إصلاحها حتى تكون مصدرا خصبا لتعلمهم. و يجب عليه أن يدفع كل واحد منهم إلى أبعد حد في التعبير عن أفكاره و توضيحها، و أن يفحص باستمرار كل أنواع الحجج، حتى يتعرف على ضروبها و أنواع و كيفية استعمال كل واحدة منها تبعا للمقال و المقام، و لا بد أن يدفع الأستاذ التلاميذ في النهاية إلى صياغة خلاصات لعناصر أعمالهم و أن يقيسوا درجات تناسب كل من المشكلات و الحلول، و التصورات و الحجج الموظفة في ذلك.و تتطلب هذه المهمات أن يكون الأستاذ على قدر محترم من العلم بتاريخ الفلسفة و مختلف المعارف و المذاهب الحاصلة فيه، و الكفاءة العالية في أصول فن التدريس.
و لا يمكن لأحد من المشتغلين بتدريس الفلسفة أن يتوسل كسب هذه المهارات من تلقاء نفسه، أو طلبها في المدارس العليا للأساتذة، و إنما هي ثمرة تضافر جهود العديد من الأفراد في التفكير، و الملاحظة و التجريب و النقد و التحليل و الاقتراح و التنظير. و هي مطالب نبيلة و شاقة تستدعي في نظرنا أن تحفز الهمم و أن تشحذ العزائم لتأسيس مرصد وطني لتنمية تدريس الفلسفة بالمغرب.
و الله و لي التوفيق.
|