تهافت مذكرة الأطر المرجعية للتقويم في الفلسفة
محمد سعد *
نود في هذا المقال المقتضب أن نرد على بعض الأفكار التي راجت على صفحات جريدة الأحداث المغربية فيما يتعلق بالمناولات البيداغوجية للشروط المنهجية للكتابة الإنشائية في الدرس الفلسفي، و كان واحد من المقالات المنشورة يطلب الرجوع إلى وثيقة الأطر المرجعية للتقويم في مادة الفلسفة، و صادف كتابتنا لهذا المقال أن توصل مدرسو الفلسفة بالثانوي بمذكرة جديدة تلخص، و تحين معطيات الأطر المرجعية. و كان لنا رأي في الموضوع نتمنى أن نصيب في ما نذكره، و ليس في نيتنا سوى قول الحق و التنبيه إليه، و الحق يطلب لوجهه و ليس لغيره.
من العبارات الرائجة في الوسط التدريسي الفلسفي اليوم ما يسمى "التسويغ الفلسفي لقواعد منهجية الإنشاء في مادة الفلسفة"، و لأن البعض يعتبر أن الإنشاء هو نمط من الكتابة المدرسية و الأدبية التي لا تجد موقعا في تاريخ الفلسفة، نقول إن الإنشاء نوع من الكتابة شاع بين الفلاسفة بشكل خاص مابين القرنين 16 و 19م، و ليس في نيتنا التفصيل في هذا الباب، و إنما التذكير أولا بإمكان الماهية الفلسفية للكتابة الإنشائية، و ثانيا التنيه تبعا لشروط صحة الإنشاء الفلسفي و ما فيها من كثرة المطالبات و عواصة المهام ، فمن الحكمة التربوية استبعاد الإنشاء الفلسفي من لائحة غايات و أهداف مدرسي الفلسفة في المدارس الثانوية، و قد يحسن الاكتفاء بتواضع بطلب كتابة إنشاء في موضوع فلسفي،دون أن نحمل لفظ فلسفي على الإنشاء . ما يبرر هذا التنبه في نظرنا هو فشل كل التلاميذ في تملك القواعد المنهجية و الارتقاء بما يكتبونه من مقالات إنشائية إلى مستوى الإنشاء الفلسفي، لو كان مطلبنا متوافقا مع قدرات المتعلمين قوة و فعلا لكنا نجد في التلاميذ استعدادا لتعلم الفلسفة و إقبالا على إنجاز تمارينها، و لكن العكس هو الحاصل، و النفور هو السائد، حتى أضحت مادة الفلسفة و الامتحان فيها كابوسا يقض المضاجع. و الراجح أن ما وصلنا إليه من بؤس في تدريس أم العلوم أننا حدونا حدو النعل بالنعل لبعض المفكرين في أمور تدريس هذه المادة في فرنسا ، حيث نزعوا بفعل إفراط في الثقة أن نعتوا مدرس الفلسفة " الأستاذ الفيلسوف"، و زد على هذا الكثير من العبارات المصطنعة كقولهم "التلميذ ـ الفيلسوف"، و ما ينتج عنها أن الدرس هو مقام التفلسف، و الأستاذ هو الفيلسوف و التلميذ هو المريد التابع. و لما كان في مثل هذه العبارات الكثير من الغلط، و ليس فيها فائدة ترجي في بيان المقاصد و تهذيب الأفعال، و إنما زرع الغموض و التشويش على الفلسفة و مدرسيها. و لقد سبق لنا أن كشفنا مثل هذا الزيف في مقام سابق مما كتبناه، أن العقل المدرسي يسقط ضحية نقيضات داخلية تغرقه في جدل داخلية لا ينتج إلا أوهاما بيداغوجية،ترهق الجميع و تحبط العزائم.
و نحن في ها المقصد نود لو نقتفي أثر "دفيد هيوم" في عمله النقدي لإيقاظ الذهن الفلسفي من أغالطه، و كان من ثمرات هذا الهجاء أن نبه" ايمانويل كانط" صاحب الفطرة النبيهة أن كتب مؤلفه الضخم في نقد العقل. و من حسنات مثل هذه الأعمال أن تنبه من زرع الله في أذهانهم بذور الفطنة، الانتباه إلى لأغالط التي حصلناها عن تبعيتنا العمياء لغيرنا، فجعلنا قولهم مذهبا و بالغنا في الاجتهاد في تفصيله ، و حصرنا جزاء أعمالنا في الوفاء لهم، و لكنهم غلطوا و غلطونا معهم.
و من جملة المغالطات التي نود بعد هذا التنبيه المطول بحثها هي التسويغ الفلسفي للإنشاء ، و بخاصة المقدمة الإشكالية.
و لأن هذا الأمر ارتبط في ذهن البعض من جهة ثانية بوجوب وضع اتفاق بين المدرسين بفعل قرار هيئة عليا عليها إنزال ذلك، قادنا البحث إلى المذكرة الأخيرة التي توصل بها المدرسون تحت رقم 37 من جهة مديرية التقويم و تنظيم الحياة المدرسية و التكوينات المشتركة بين الأكاديميات لعلنا نجد فيها ما يجلي المعنى و يميط الحجب. و لعل ما يبهج الخاطر أن تشيع ثقافة النقد الحسن لكل ما يتصور، و ينجز، و يقرر. و هذا هو صلب العمل الفلسفي كما قال به "ايمانويل كانط" في الكشف عن مهام التفلسف في بيان شروط إمكان النظر و العمل. ومن صواب النقد أن نذكر بداية بنوايا المذكرة ، و سياقها : و هما وجوب تحيين الأطر المرجعية بعد أن صادقت عليها لجن وطنية تخصصية تمثل الأكاديميات. و أهدافها توحيد الرؤية بعدما تفرقت الكتب المدرسية في الألوان و التلبيسات و التحكمات، و تحقيقا للعدل و المساواة في تكافؤ الفرص بين المتعلمين تبعا لتوحيد القواعد حتى لا يسقط البعض ضحية الاختلاف و الخلاف في الفهم و الفعل بين المدرسين و المصححين. و التوحيد هو في باب عقد بيداغوجي يجعل العملية التعليمية شفافية ، و حقلا لممارسة الديمقراطية التعاقدية و اكتساب أصولها. و ما تشترطه هذه المذكرة في هذا الباب أن يتم حصر دقيق للموارد سواء كانت معارف و مهارات يكون المتعلم ملزما بامتلاكها في الحد الأدنى. وفي المجال الأول تحت عنوان المجال الرئيس الأول: تحديد المجالات، و تحته المضامين، ورد أن المضامين الفلسفية تشمل إشكالات فلسفية، و مفاهيم فلسفية، و أطروحات الفلاسفة، و أقوال و نصوص فلسفية، و أقوال و مضامين أدبية أو فنية ذات أبعاد فلسفية، و أمثلة من المعيش اليومي من تاريخ الفلسفة أو من مجالات أخرى أو من تجارب إنسانية مشتركة. و بعد إدراج نص قول المذكرة حرفيا نود أن نقول إن كلاما مثل هذا مشبع حتى الثمالة بسوء الفهم و تشوش العبارة و التغليط في الآن نفسه. و كان حريا بمن كتب هذا أن ينتبه إلى العبارة سواء في منطوقها المنطقي ، أو على الأقل اللغوي، و معنى هذا أن صفة" الفلسفية" تحمل هنا على الموضوع"المضامين" و هو الموصوف بالصفة. و ما تم إحصاؤه من مضامين ليس كله فلسفيا، و إنما هو على وجه التدقيق موارد يمكن للدرس في مادة الفلسفة أن يتغذى منها، و ليس في أصلها و ماهيتها فلسفية. و المطلوب لتبين هذا الفرق أن نعود إلى متن الفلاسفة و ما كتبوه ، و لما كتبه المؤرخون في هذا الأمر، و من جملته أن أفلاطون لا يدخل أمور الحياة العامة من شواهد ومنتوجات فنية و تجارب البشر في دائرة الفلسفة، لأنها رأي أو أقرب إليه. و كل هذه المضامين ليست فلسفية و لا يصح اعتبارها غير ذلك، و إنما قد تكون موضوعات لتفكير فلسفي متعالي يخلص الفكر من عرضية الإحساس و أنانية الذوق و اختلاف الخبرة. و لا نعتقد جازمين أن ايمانويل كانط قال في مقام ما فيما ألفه من مخطوطات أن الشروط الأمبريقية للحساسية و أو مقولات الفهم و أحكامه تدخل ضمن شروط إمكان التفلسف ، أي في صلب المشروعية المعرفية للعقل المحض العارف نظريا و عمليا. و لما قالت المذكرة ما قالته من تلبيسات ينجم عنه أن ننزل بها إلى حد الإسفاف، و ينال منها الابتذال حتى يصبح كل تفلسف هو عرض للشواهد، و النوازل، وعجيب الغامرات ، و نقل للأقوال و الأشعار. و لهذا نود قول أمرين في هذا المحل: أولهما أن المعرفة الفلسفية هي ما حملته كتب الفلاسفة لا غير. و من الواجب هنا أيضا أن نميز في مضمونها بين ما هو فلسفي و ما يسمى في عرف النقاد بالمضامين الجانبية للتفلسف، و المقصود بها معطيات غير فلسفية في طبيعتها يلجأ إليها الفيلسوف ليس في بناء صدقية نسقه، و إنما لتعينه في عرض فكرته لمن يطلع عليها من القراء أو العامة. و خير شاهد على فكرتنا هذه أن أفلاطون حينما لجأ إلى أسطورة الكهف ، لم يكن يعتبرها فكرة فلسفية، و لم يعتبرها غيره من بعده كذلك، و إنما كانت بالنسبة للجميع أداة استعارها سقراط لتقريب الفهم في ذهن "اديمانت". و لا بد أن ينتبه الدارس و المدرس إلى مثل هذا الفرق حتى يتخلص الفهم من الخلط و التلبيس. و الأمر الثاني هو أن عبارة الموارد ألطف و أصدق من عبارة المضامين، و شريف لو استبدلنا عبارة الفلسفية بالعبارة المركبة: مادة الفلسفة.لأن قصد الكاتب هو أن يفصل في موارد الدرس و هي ليس بالضرورة كلها فلسفية، كما هو حال موارد النحل ليس كلها عسل و إنما ينتج منها عسلا صافيا، و إن كان هذا هو القصد نلتمس له العذر لغلط العبارة، و إن كان قصده التفصيل في أنواع المعارف الداخلة تحت الفلسفة فهذا كلام فيه الكثير من التشنيع و التصنع.
و أدرجت المذكرة هذه المضامين أو موارد الدرس الفلسفي في إطار عام و هو المجزؤات، و رأينا أن لفظ المجزؤة من الألفاظ الشائعة اليوم في المغرب، و هو منقول عبر الترجمة من اللسان الفرنسي. و ليس له في اللسان العربي أي مبرر، و مادام اللفظ بدعة لسنية فالأقرب إلى الترجمة لفظ المصوغة، و أقومها في العبارة و الإشارة لفظ الوحدة. و إطار خاص سمي بالمفاهيم ، و على هذا وجب حسب منطوق المذكرة ، أن تقبل الموارد الانتظام مثلا في مجزؤة الوضع البشري كإطار عام، و تدخل في مفهومي الشخص و الغير.و اللبس الحاصل هنا بين الشخص و الغير هل هما مفهومين أم موضوعين؟ و الفرق الذي لم تعره المذكرة قدرا من الانتباه هو أن المفهوم مقولة تدخل في تشكل المعنى داخل نسق فلسفي معين،و تدخل أيضا في قلب هذا النسق في علاقات مع مفاهيم أخرى لتشكل الحقل المفاهيمي للنسق ذاته.أما أن يكون المفهوم عبارة دالة على حقل من البحث الفلسفي كما هو وارد في منطوق المذكرة فهو أمر فيه تلبيس، و من الواجب القول بلفظ الموضوعات بدل المفاهيم. و يكون تبعا لذلك ميسرا التمييز في الغير كموضوع تفكير، و الغير كمفهوم و أداة للتفكير. و صدق الفرنسيون حينما أشاروا للأول بعبارة Notion و الثاني بعبارة Concept و هذا ليس بباطل.
و الاعتراض الثاني هو على التقسيمات و التسميات التي وضعت للموضوعات التي تندرج في الوحدات، خصوصا ما سميت منها بالوضع البشري، و الملاحظ أن واضعي البرامج المغربية ساروا على منوال واضعي الكراريس الفرنسية، لكنتا نجد تعسفا طال مجال الوضع البشري و تم الفصل بينها وبين موضوعات السياسة و الدولة و الحق و العدالة و غيرها من الموضوعات التي أدرجها المقرر الفرنسي ضمن الوضع البشري. و السؤال هنا هل يقتصر الوضع البشري فقط على الذات و الغير و التاريخ؟أليست الدولة شرطا للوضع البشري باعتباره كائنا سياسيا؟ و هل يخرج العنف عن الوضع البشري؟ و غيرها من الموضوعات التي تم إخراجها من الوضع البشري قسرا.
في القسم الثاني المسمى المنهجية قدمت المذكرة لهذا الباب بفقرة إشارة إلى الموضوعات التي يتناولها الامتحان الوطني في مادة الفلسفة، أو على الأقل التمرين في الفلسفة إما أم يكون متعلقا بموضوعة واحدة تندرج في إطار وحدة تيماتية، أو موضوعات من نفس الوحدة يحيل الواحد منها على الآخر، أو موضوعات من وحدات مختلفة بينها ما يبرر اقترانها. و انتقلت المذكرة إلى عرض جدول تركيبي تحت اسم الكفايات الواجب مراعاتها في مادة الفلسفة، تبعا لما حدده المنهاج، و المقصود هنا ما ورد من شروحات و تبريرات بالكتاب الأبيض على وجه التخصيص. و في الخانة الأولى من الجدول تم الإشارة إلى "كفايات نوعية". و وجه الغرابة في هذه العبارة الخلط بين مقولات بيداغوجيا التدريس بالأهداف و مقولات بيداغوجيا الكفايات. و لم يتناه إلى علمنا ، بالرغم من اهتمامنا اليومي بأمور التدريس و البيداغوجيا عامة أن هناك كفاية نوعية.و نعلم على القطع أن الكفايات تقبل أن تكون إما أساسية أو مستعرضة.الأولى خاصة بمادة دراسية واحدة، و الثانية مشتركة بين مواد متعددة .
و ذكر بالحرف في الخانة الأولى للكفايات النوعية " الصياغة الإشكالية"، و نحن نسأل أهل العلم و الخبرة إن كان مثل هذا القول الموضوع يشكل نص كفاية؟. و في أصول مهنة التدريس أن يعبر المدرس باللفظ الدقيق و القول الفصيح عن مقصده بحدود واضحة لا تقبل تأويلا بين اثنين. على هذا المنوال تكون عبارة "الصياغة الإشكالية" لا تشير إلى كفاية بعينها، و لا تصح تبعا لأصول المهنة، كمن يقول " الخياطة التقليدية" و لا ندرك قصده من وراء القول. و على نفس القدر من الغلط كتب في الخانة الثانية و الثالثة تباعا " البناء المفاهيمي" و " الحجاج"، و كان من اللائق أن يشار إلى نص الكفاية بالحرف. و في الخانات المقابلة التي حملت عنوان "مؤشراتها" أي مؤشرات تحقق الكفايات ، و نحن نعلم على القطع أن المؤشرات لا تتصل بالكفايات مباشرة،و إنما هي مرتبطة بالأهداف التي تقبل لوحدها أن تقوم تبعا لمؤشرات سواء كانت الأهداف على صيغة موارد معرفية أو مهارات إجرائية لقدرات منهجية أو غيرها. و كان حريا بالذي كتب ما كتب أن يحدد بعض الأهداف أو القدرات المستهدفة و أن يترك أمر المؤشرات إلى من سيضع الامتحان و يسطر دليل المؤشرات المتوافق مع الكفايات في اتصالها مع المحتوى الذي يمنحها صورة قدرات و أهداف و مهارات تقبل القياس وفق مؤشرات. و من بين المؤشرات الواردة في خانة كفاية الصياغة الإشكالية نقرأ ما يلي:" بناء تساؤل انطلاقا من المفارقة المستخرجة أو المبنية، أو من تقابل أو معضلة، أو إحراج... الخ". و لنا في وجه هذا الكلام الكثير من الاعتراض، لكن من أجل الإيجاز اللطيف الذي لا يخل بالقصد، نقول أن الأصل في الفهم المنطقي هو المفارقة أما المعضلة و التقابل و الإحراج فهي كلها مقولات تدخل تحت المفارقة، و اختلافها بسيط لا يتعدى كون أن المعضلة هي الوضع الذهني للمفارقة باعتبارها عقبة أمام العقل، و التقابل هو نوع من العلاقة بين حدين مفارقين الواحد منهما الآخر، أم الإحراج فهو أثر هذه العناصر على النفس و الذهن. و لوعدنا إلى المؤلفات الموضوعة في باب صناعة الأشكلة، نجد أن التساؤل في الفلسفة يقبل أن يكون على وجهين: الأول هو السؤال الموضوعاتي المفتوح، و لا يطرح أي مفارقة، و معضلته تكمن في شساعته و صعوبة رسم حدود البحث فيه، و من جملة ذلك أن يسأل سائل مثلا: ما العلم؟ و ما الخير؟ و ما السعادة؟ . و الوجه الثاني هو سؤال المفارقة و يسمى منهجيا بالسؤال الإشكالي، و يجب على من يضعه أن يراعي تضمينه حدي التعارض أو التقابل، و يسمى أيضا بسؤال "البدائل" لأنه يطرح أمام العقل احتمالين للبحث على الأقل، كأن يسأل المتعلم على سبيل المثال، هل تتقوم هوية الشخص تبعا للشروط القبلية للذات المفكرة، أم تبعا لخبرته النفسية و الاجتماعية؟.
و الاعتراض الثاني في هذا الباب أمر شكلي دال يتصل بنقط الحدف و عبارة "...الخ" التي لا تليق بمقام التشريع الديداكتيكي بما هو فن التدقيق و السباكة لأمور الامتحان بما تقتضيه من حصر للمؤشرات على الأقل في عددها ، لعلنا نسد الباب في وجه الإضافات الضارة و التأويلات المسرفة.
و الاعتراض الثالث على مؤشر "بناء تساؤل فلسفي" هو صمت عبارة "بناء" عن التصريح بمواد البناء و كيفيته، و نحن نسأل هل يكفي أن يبني المتعلم أي تساؤل كيفما أتفق من مواد و هيئات ؟ و نحن نعلم معشر المغاربة أن البناء زخرف و تركيب مهذب بين مواد لطيفة تزيد البنيان رصانة و زينة، و غير ذلك يجعله عشوائيا كما هو حال نصف مباني حواضرنا. و نظرا لعواصة ما صمتت عنه العبارة ننبه إلى أن الفرنسيين استحسنوا في قواعدهم أن يشرع المتعلم في بناء الإشكال من خلال مواد بعينها، و هي التمثلات و الوقائع و بعد ذلك الانتقال إلى تعريفات الرصينة و أولها ما جاء في القواميس ، و أشرفها ما ذكرته القواميس الفلسفية، أو الأنساق لبيان أوجه المفارقة و الفارق بين التمثل و الرأي و المفهوم. و هذا الاشتغال التحضيري هو الذي يقدم مواد بناء التساؤل.
و التنبيه الثاني الذي نسوقه هنا أن القول بكفاية الأشكلة فيه قدر من التسرع دون تبين أمرها، و المعلوم أن أول من تحدث في الأمر هو "ميشال توزي" في مؤلفه المشهور "كيف نتعلم اليوم التفلسف في الثانويات". و نحن نسأل من باب التمحيص و تقدير الأمور هل الأشكلة كفاية أم قدرة؟
و الجواب على السؤال ليس واضحا حتى فيما كتبه" توزي" لأنه يذكر "الهدف النواة" و حينما يذكر Compétence ترد في سياقها بدلالة القدرة و الاستطاعة، و نعلم أن بياغوجيا الكفايات ترسم الخطوط الواضحة بين القدرة و الكفاية. و سبيلنا الوحيد للجواب هو استباق أمر البيداعوجيا الجديدة المسماة بيداغوجيا الإدماج، المرتقب اعتمادها في التدريس بالسلك الثانوي في السنوات المقبلة، و تنص على كفاية أو كفايتين على أبعد تقدير لكل مادة دراسية، و عليه تكون مادة الفلسفة تقبل كفايتين: واحدة معرفية و ذهنية، و الثانية منهجية قد يكون نصها :" أن يتملك المتعلم أنماط الكتابة في الفلسفة من خلال تحليل نص، و إنشاء فلسفي من خلال قول فلسفي أو سؤال، تبعا للقواعد التنظيم المنهجي ، و التبرير العقلاني ، البرهنة و الضحد الداخلي و الخارجي، و التركيب ،وفقا القدرات الأساسية: الأشكلة، و البناء المفاهيمي، و الحجاج. و بذلك تتحول في تقديرنا الأشكلة إلى قدرة و ليس إلى كفاية كما يعتقد.
و التنبيه الثالث يخص هل ما يقدمه التلميذ من أسئلة هل هي فلسفية حقا؟
و لابد من أن نوجه عناية من يود الاعتراض علينا في أمر هذا التنيبه أن تفكير و لغة "ميشال توزي" شهدا منعطفا هاما، لقد وضع الرجل في كتابه "كيف نتعلم التفلسف اليوم في الثانويات" و تبعه من ملحقات و شروحات بأن الأشكلة تدخل في القدرات النواتية" ، و بعد ذلك في مقال نشر في المجلة الدولية لبيداغوجية تدريس الفلسفة، أن كفاية الأشكلة تطرح جملة من الصعوبات أمام تعليم الفلسفة، إن كنا نضع في اعتبارنا الشروط الضرورية للسؤال الفلسفي، و ليس فقط أن ندفع بالتلميذ إلى طرح أي سؤال كان. و لو دفعنا بهذه القدرة إلى مستوى ممارسة النقد، فليس أي نقد يكون فلسفيا، و لا بد هنا من الانتباه إلى أن ايمانويل كانط رفع مستوى شروط النقد لكي يكون فلسفيا
و الحجة أن الأسئلة الفلسفية لا تدخل في لائحة الأمور المعقولة التي تطلب من التلميذ، و الدليل على ذلك أن أعمالهم لا تكشف ، دوما إن لم نقل أبدا، عن أي تساؤل فلسفي حقيقي.فالأسئلة الفلسفية هي ما وضعه الفلاسفة في متونهم و مسجلة باسمهم في سجلات التاريخ. و ليس يحق لنا ابتذال الأمر و نطلب من المتعلم أن يفعل ما فعله الفلاسفة، و نحن نعلم أن السؤال الفلسفي هو جوهرة التفلسف التي يصقلها الفيلسوف بعد جهد شاق من الصناعة العقلية الحاصلة بالفطرة و المهذبة بالتعلم و التدبر الطويل، و إلا لكان كل من طرح سؤال حار العقل في الجواب عليه فيلسوفا.
و المطلوب إذن من التلميذ لا يتعدى أن يعرف جملة الأسئلة التي طرحها الفلاسفة بصدد الموضوع المدروس أو ما يتصل به، و معنى ذلك إبراز قدرته على استحضارها و انتقاء أيها مناسب لموضوع المقال. و في جميع الأحوال إما أن يعيد المتعلم صياغة أسئلة الفلاسفة بلغته الخاصة و تكييفها مع الموضوع المطروح، أو أن يبحث عن جسور تؤدي به من الموضوع المطروح إلى أقرب موضوع تساءل بصدده الفلاسفة، و قد يحاكي التلميذ أسئلة الفلاسفة في تركيبها و طموحها.و الحاصل يلزمنا الاحتراس من الوقوع في غلط الإفراط في تقدير أسئلة التلميذ و رفعها إلى مقام الأسئلة الفلسفية.
و الاعتراض المجمل الذي ندفع به في وجه خانة المؤشرات المقابلة لخانة "كفاية نوعية"و التي كتب فيها " البناء المفاهيمي" وورد فيها ما يلي من المؤشرات: " تعريف المفاهيم ، و الكشف عن دلالاتها، و ربط المفاهيم بمجالاتها النظرية، إبراز العلاقات القائمة بين المفاهيم في إطار الإشكال" ورأينا أن صور المفهمة تختلف من مقام إلى آخر خصوصا بين تحليل نص فلسفي و كتابة مقال إنشائي.و كل هذه المؤشرات في حقيقة الأمر تدخل في العمل التمهيدي لبناء المفارقة و صياغة الإشكال، و بالتالي وجب إدراجها في مستهل التفصيل في شروط "الأشكلة".أما البناء المفاهيمي إنما يتقوم بعنصرين: البرهنة و الدحض.
الأولى، تحليل المفاهيم داخل حقلها الدلالي، و المقصود هنا منطوق المنطوقات بما هي عبارات و دلالات، و منها ما هو مفهومات أو مقولات فلسفية و جب تحليل معانيها وردها إلى مبادئها، و أيضا تتبع نسق العلاقات بين المفاهيم و الأفكار، مما يجعلنا في نهاية الأمر نتحرك بوضوح داخل نسق الدلالة، و هو المعبر عنه جزئيا بالبناء المفاهيمي، و البعض ممن قادهم علمهم و نباهتهم في هذا المبحث إلى دمج وظيفة الحجاج في المفهمة، و حجتهم في ذلك أن الاشتغال على التسلسل المنطقي للأفكار في النص، أو صناعة هذا التسلسل في مقال إنشائي لا يستقيم من دون دلالات و مفاهيم و أفكار.
و الثانية، الدحض و هي من صنفين: دحض داخلي لإبراز حدود التصور الفلسفي انطلاقا من النسق ذاته و عدم الخروج عنه إلى نسق آخر. و ذلك بدفع التحليل و التنقيب داخل المفاهيم و المعاني لإبراز الحدود التي تنتهي عندها مفعوليتها المعرفية. و دحض خارجي بالكشف عن هذه الحدود من خلال مواجهة النسق بنسق آخر، أي و ضع مفاهيم النسق في حوار مع مفاهيم أخرى لنسق آخر، إما امتدادا أو انقطاعا.
و في خانة "كفاية نوعية: الحجاج" لا حظنا كثرة ما ورد فيها من عبارات عامة و سقيمة، و لا يسعنا المقال هنا للوقوف عند كل اعوجاج و نعد القارئ الكريم بالعودة إلى هذه المسألة في مقال لاحق. إلا أننا نريد التنبيه إلى سوء العبارة في القول "الاستشهادات الفلسفية" و الصحيح في القول هو" الاستشهاد بأقوال الفلاسفة"، لأن الاستشهاد هو إفادة بالقول في أمر ما لغرض التأكيد أو النفي، و ليس فيه ما هو في ماهيته فلسفي أو غير ذلك، و إنما الفرق بين طبيعة الأقوال و الشواهد، فمنها ما يكون للفلاسفة و أخرى لغيرهم.
و قد ورد في محور القيم وجوب استحضار القيم المرتبطة بالتفكير الفلسفي، و انتظمت في ثلاث كفايات قيمية: التفكير العقلاني المنفتح، و اتخاذ مسافة نقدية من المواقف، و روح المسؤولية و السلوك المدني. و لكل واحدة من هذه الكفايات مؤشرات تدل عليها.بالنسبة للكفاية الأولى ورد ما يلي:اعتماد طريقة منهجية في التفكير ة الكتابة، و الاستدلال و الربط المنطقي بين الأفكار ، و الانفتاح على معارف علمية و أدبية و فنية.
و الظاهر أن من وضع هذه المؤشرات سار وفق تركيب العبارة في نص الكفاية، و اشتق لكل كلمة منها مؤشرا، و تحول كل لفظ فيها إلى كفاية مخصوصة ، و هذا ضرب من الخطأ. فكان مقابل كلمة التفكير مؤشر منهجية التفكير و الكتابة، و هو مؤشر على قدر كبير من الضبابية و عدم الوضوح، و لا يصلح وفق مبادئ بيداغوجيا التقويم لأن يكون مؤشرا، لن شرط صحة المؤشر الدقة و إحصاء لعناصر قابلة للملاحظة و القياس، و لا يجب أن يكون بإطلاق المعنى و اشتراكه لما يخلف ذلك في الذهن التباسا و في التأويل اختلافا بين المصححين، غير أن قصد من أبدع قاعدة المؤشر هو توحيد الأحكام و التقديرات. و كان حري بالذي كتب هذه المؤشرات أن يتوقف عند تعيينها و تخصيص مضمونها، و يعلم معشر الأساتذة أن مناهج التفكير و الكتابة ألوان و أصناف عديدة و بعضها يصلح لمقال الفلسفة، و البعض من هذه يخص مقالا دون غيره. و "الاستدلال و الربط المنطقي بين الأفكار" المقابل لعبارة "العقلاني" في نص الكفاية، و المثير في مثل هذا القول عظم الطموح إلى حد انقلابه إلى وهم محبط ، و معلوم أن علم المنطق بما فيه من كثرة المباحث و شساعتها تصب كلها بالإجمال في صناعة الاستدلال و هو إنتاج قول من قول موضوع مقدما. و ينقسم إلى ما هو برهاني و ما هو جدلي و ما هو خطابي، و إن شئنا تقسيمها حسب تركيب الاستدلال إلى ما هو مباشر و ما هو غير مباشر.و المباشر منها ما هو شرطي متصل و ما هو شرطي منفصل، و المنفصل ما هو مانع الجمع و الخلو معا ، و ما هو مانع الجمع فقط.و غير المباشر هو ما كان منها قياسا ، و القياس ما كان برهانا أو استقراء، و ليست غايتنا التطويل في هذا التوضيح لكنا نحيل القارئ للمزيد من العلم على شرح ابن رشد لكتاب التحليلات لأرسطوطاليس.أما عبارة الربط المنطقي فتحتمل الحمل على دلالتين:ـ لغوية بتوظيف عبارات الشرط و الإضافة و الاستدراك و الاستنتاج و ما غير ذلك من المفردات، و التنبيه المطلوب هنا هو أن الربط المنطقي لا يكافئ في الكثير من الأحيان مع الربط المنطقي.، و قد يصح لغويا صورة الشرط بوجود أداة الشرط و جوابه، و الشرط و المشروط لكن في مادته يكون غير مستقيم في العقل و لا يتوافق مع قواعد الاستدلال.ـ التحكم في إنتاج المعاني تدرجا بما تقتضيه ضرورات العقل. و هذه الكفاية هي أجل ما يدرس في الفلسفة و أشرف ما يسلح به ذهن المتعلمين في مدارسنا اليوم التي غرقت في الدوغمائية و بلادة التفكير و الفكر.
و إذا ما نظرنا إلى نص الكفاية بعامة نجد فيها ما يستعصى على العقل فهمه و تقبله، و إن كان الأمر يتعلق بالتفكير العقلاني و كانت العقلانية استدلالا صحيحا وفق ضرورة الحق العقلي، فالحق واحد و ليس كثرة، و العقلانية ليست أي استعمال كان للعقل بل هي صورة مخصوصة و هي غير منفتحة على غيرها ،على عكس ما يتوهم البعض، حتى و لو وجهنا نظرنا نحو ايمانويل كانط في نقد للعقل المحض، فالعقلانية المتعالية تقوم على اكتفاء للعقل بمبادئه و مقولاته، على خلاف الفهم و الحساسية. و إن كان القصد هو الاستعمال الحجاجي للعقل في فضاء النقاش العمومي فواجب ذكر كل أمر بحده التام ، و عدم التلاعب بالعبارات من دون تبصر ، حتى أننا في المغرب أصبحنا مشهورين بالغلط و التغليط و إبداع المفاهيم الهجينة و العجيبة.
و في نهاية مقالنا نطلب و نطالب أهل الحل و العقد في أمور تدريس الفلسفة أن يتحلوا بقدر من التواضع المطلوب ، وأن يسرعوا إلى عقد حلقات تشاور و تدارس معقول في أمور تدريس هذه المادة مع جموع المدرسين، دون مماطلة أو التفاف حول شروط و طرق و نتائج هذا التشاور. و الغاية نبيلة و القصد شريف و الخدمة جليلة، لأن من خدم التدريس بصدق خدم أجيال هذا الوطن، و من خدم الفلسفة كان له عند الله أشرف جزاء و أشرق مرتبة.
* أستاذ مبرز في الفلسفة، و أستاذ علوم التربية و الديداكتيك بمركز تكوين الأساتذة، بنسليمان