فلسفة الفكر حوار مع جوليا بروست
تعريب : محمد سعد
بعد دراسات عديدة في فلسفة المنطق توجتها بأطروحة للدكتوراه في جامعة دو بروفانس تحول ج بروست اهتمامها نحو فلسفة الفكر، هي اليوم مديرة قسم الدراسات الابستمولوجية التطبيقية بالمعهد الوطني للبحث العلمي بفرنسا.
***
r لوران ماييه: لنبدأ بسؤال بسيط، هو فاتحة أي تفكير في التفكير، ما هو التفكير؟
ـ جويل بروست: اعتقد أن التعريفات الفلسفية درجت على فهم للتفكير كنشاط شمولي و متجانس، فهم يبدو في نظري بعيد عن الصواب. لا يمكن رد التفكير إلى بعد واحد، انه على وجه التحديد، مجموع عمليات معقدة قابلة للانتظام في سلاسل دينامية. يمكن استعراضها على شكل أبعاد لاعتبارات منهجية فقط:
* البعد الأول يتعلق بأنشطة ذهنية يكون فيها التفكير أشبه بآلة حاسبة، يقوم بمعالجة المعلومات و تدبيرها عبر تخزينها واستعادتها عند اللزوم، و التركيب بين بعض المعطيات الادراكية. في حدود هذا المعنى يقوم التفكير على تسلسل مراحل حسابية تبدأ، على سبيل المثال، من قياس حدود الأشياء و تصنيفها،التركيب بين أبعاد ادراكية، إلى اختيار الاستجابة الملائمة انطلاقا من قراءة معطيات المحيط الفيزيائي و مقتضيات القواعد الاجتماعية و أيضا الأهداف الخاصة. عمليات تقوم على ديناميات معقدة للغاية، تتم بشكل اتوماتيكي و لا واعي بفضل قدراتنا الطبيعية ـ الكيميائية العصبية. في حين يبقى حيز العمليات الخاضعة للإرادة و الوعي ضيقا للغاية.
* البعد الثاني يخص التمثيلات الذهنية للعالم الخارجي، الفلسفة الكلاسيكية غالبا ما تخلط بين هذا البعد و البعد السابق، الأمر هنا يتعلق بعلاقة تجمع ذات مفكرة و واقع معين، تشكل هذه الذات تمثلا يعبر عن فهم لهذا الواقع يكون من جهة موضوع" حكم معرفي" ـ قابل للصحة و الخطأـ. و من جهة ثانية يكون قائما على" قصدية".
البعدان السابقان، القصدي و "العملياتي" يتدخلان بشكل يصعب فك تشابكهما، من أجل حل مسالة فزيائية على سبيل المثال، نكون ملزمين ببناء ما يمكن تسميته"مجال المشكل" من خلال ملاحظات و
حسابات تقنية، و أيضا صياغة تمثلات هي افتراضات قابلة لأن تكون حلا، بالإضافة إلى ذلك ضرورة تفكيك المشكلة الكبرى إلى مسائل جزئية،
والقيام بإجراءات صورية تبعا لقواعد رياضية منتظمة، كما أن الفرد وراء كل هذا يعي جيدا قصده، كما أن المحصلة المعرفية تبقى دوما بين حدود حكم الخطأ و الصواب. إنها مجموعة مركبة من الديناميات الذهنية المتداخلة التي لا تتيح لنا أي إمكانية لاختزال التفكير في بعد و احد من هذه الأبعاد.
r هل التفكير تابع لامتلاك اللغة؟
ـ اللغة هي أولا الأداة التمثيلية الأقوى من أي أداة رمزية أخرى لأنها بفعل خاصية التمفصل تساعد مستعملها على تركيب العلامات بشكل يجعل التمثل يتوافق مع واقع معين.
اللغة تمكن أيضا من التعبير عن مفاهيم و تثبيت تمثلها في الذاكرة لمدة أطول.لا يمكننا تجاهل الدور الأساسي لهذه المفاهيم في تمثيل الواقع: تصنيف الادراكات و تنظيم مستوياتها، وبشكل عام القدرة على"التنظير".
لكن لدينا سببين على الأقل لاستبعاد اللغة الخارجية كشرط ضروري للتفكير. من جهة، حتى في حالة غياب التواصل اللغوي الخارجي لسبب من الأسباب كالنقص الفزيولوجي عند بعض ذوي العاهات، فان اللغة الداخلية أو التكلم مع الذات، شرط جوهري لبناء التفكير. من جهة ثانية تستطيع وسائط رمزية أخرى التعبير عن الفكر، فالصورة البصرية و السمعية و الحركية تشكل كلها مصدرا للتمثل واقع معين. إنها مجالات غير لفظية يستوطنها الفكر.
r هل نستنتج من هذا أن الحيوانات رغم فقدانها لملكة ا للغة يمكن أن تمتلك شكلا خاصا من التفكير؟
ـ يبدو لي من الصعب نفي قدرة بعض الحيوانات على التفكير، ليس مهما تكرار ذلك بل الأهم إيجاد التبريرات المناسبة. غالبا ما يتم ترجيح قدرة الحيوانات على استخلاص المعلومة و استثمار معطيات جديدة لتعديل سلوكها.لكن التفكير لا يتوقف فقط على معالجة المعلومة، بل يتعداه إلى مستوى تمثل العالم بصيغة تقبل الصحة أو الخطأ.
ليس هناك تفكير إلا إذا توفرت قدرة الكائن تمييز صدق أو خطأ التمثلات، و أيضا إمكانية تصحيحها. لكن عملية التصحيح تتوقف على النجاح في التمييز بين الفكر و الموضوع، الشجرة التي نفكر فيها توجد حتى حينما لا نفكر فيها. أغلب الحيوانات تتحرك داخل مجال يحتوي أشياء ثابتة و متحركة، وهي قادرة بدون شك على تمميزها. لكن هذا ليس دليلا كافيا لاتباث قدرتها على استثمار المعطيات و توظيفها في سياقات أخرى . و السؤال الذي يقتضي منا أن نوليه الأهمية اللازمة هو كيف تتمكن الحيوانات من التمييز بين ما في المحيط من معطيات متحركة و ثابتة؟
كثيرا ما دافعت عن فكرة ـ افتراض نظام أو آلية وظيفية اسميها بعملية "إعادة المعايرة" Recalibration" " تمكن الدماغ الحيواني من مقارنة المدخول الادراكي باستمرار عبر لحظات و وضعيات متعددة، و رصد اللاتوافقات المجالية و في نفس الوقت إعادة التوافق الضروري. هذا الدينامية هي أساسية، في نظري، لكي يتمكن الحيوان من إدراك الوقائع والأشياء المفردة ، الثابتة و المتحركة.
r إذا كان التفكير نشاطا لا واعيا هل إقرار هذا من شانه أن يحسب لصالح صدقية التصور الفرويدي؟
ـ إن ما هو أصيل في التنظير الفرويدي ليس الاعتراف بوجود تمثلات لا شعورية أشبه بالادراكات الصغرى التي قال بها ليبنيتز من قبل، و إنما في افتراض أن اللاشعور مرتبط بمجهود نفسي لحفظ بعض التمثلات التي تحركها الطاقة الليبيدية، خارج الوعي.
غير أن الفرض الفرويدي حول الأصل الدافعي لهذه الدينامية مبني على جهل للطابع الباطني للنشاط العصبي، و هو جهل مبرر في عصر فرويد. نعلم اليوم أن الخلايا العصبية لا ترتبط في نشاطها بأي "مخزون دافعي".كما لم يعد هناك أي مبرر علمي مقبول لمعالجة الأحلام، و السلوكات التعويضية و الأعراض العصابية بشكل موحد أو عبر نموذج تحليلي ـ تفسيري جاهز.من وجهة نظر التحليل الوظيفي تبدو هذه القضايا غير متجانسة، كل واحدة منها ذات طبيعة و خواص تجعلها تقتضي منا معالجة بطريقة فريدة عن الأخرى.
من جهة أخرى يكون "اللاوعي الذهني" مرتبطا بالوظيفة العادية لمعمار الدماغ. هل هناك نشاط دماغي للكبث يستجيب للأوصاف التي قدمها فرويد؟ من الممكن ذلك. لكن هذا الفرض ينتظر دوما منا التصديق عليه تجريبيا. غير أن لنا من المبررات ما يجعلنا نشك باستمرار في دور التمثلات المكبوثة و اللاشعورية كمسببات للأمراض العقلية.
r هل الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر في تفكيره؟
ـ يمكن ادعاء قدرة الحيوان على القيام ببعض الأنشطة التفكيرية بدون شرط اللغة. لكن من غير الممكن ادعاء أن للحيوانات، أو بعض الأنواع فقط، القدرة على الوعي بأنها تفكر أو أن الأفراد الآخرين يفكرون.حتى أن قرد الشامبنزي الذي يبدو الأقرب إلى الإنسان ليس ظاهرا الآن أنه يعي أن لأفراد المجموعة معرفة بالأشياء قد تختلف عن المعرفة الخاصة به. و هذا لا يمنعه من القدرة على حسن توظيف نوايا الغير، فالأذكياء من المجموعة يتعلمون بسرعة طرق الاستفادة من دعم الغير و الإيقاع بالخصم. القيام بهذه الحيل لا يمر بالضرورة عبر " نظرية للفكر" بمعنى عدم الاستناد على فرضية أن الأقران يشكلون تمثلات و يتصرفون على قاعدة ما يعتقدون أنه صحيح.
ليس بإمكان الطفل البشري القيام بمثل هذه الاستراتجيات إلا في حدود ثلاثة سنوات و نصف بعد الولادة، و بالأخص حل بعض المشكلات المرتبطة ببعض الوضعيات التي تتطلب تركيبا ذهنيا و سيرورات عقلية مرنة.
هناك اليوم عدة تنظيرات تقترح تفسيرات لأسباب فشل الأطفال دون سن الرابعة و الأطفال الأنطوائيين في القيام بمثل ذلك في الوقت الذي ينجح فيه آخرون في سن الربعة.البعض يعتقد أن السبب يعود إلى قدرة فطرية على تشكيل " تمثلات عليا" بمعنى تمثلات حول التمثلات.كما أن البعض الآخر يولي أهمية زائدة لدور "التقمص الوجداني" و تمثل الحالات الباطنية للغير.
r هل التنظيرـ التصويرـ الدماغي يشكل اليوم وسيلة لملاحظة الحالات الذهنية أم فقط الحالات الدماغية؟
ـ ما تستطيع تكنولوجيا التصوير الباطني اليوم ضمانه لا يتعدى معرفة بعض مناطق الدماغ التي تتدخل في هذا النشاط الذهني أو ذاك. هذه التكنولوجيا إلى جانب الطرق الكهروفزيولوجية لتسجيل النشاط العصبي تظهر بدون شك توحد أو تطابق الحدث الذهني مع الحدث الدماغي.لا يمكننا التفكير بدون الدماغ.التفكير في فكرة معينة مشروط بوظيفة مناطق محددة في الدماغ.الكثير من الدراسات بين أن الدماغ لا يعمل ككتلة واحدة، بل بطريقة عالية في التخصص تبعا للمهمة المراد القيام بها.
ما هو عليه التنظير الدماغي اليوم يسمح برصد المناطق الدماغية العاملة وحتى طبيعة النشاط الذهني الجاري: هل هو تحليل معلومة، تخيل، حلم، تذكر أو حفظ معلومة؟أو غير ذلك. لكن لا تسمح لنا الإمكانيات التكنولوجيا بعد بالقراءة في الأفكار أو محتوى هذا النشاط أو ذاك. بمعنى آخر إن التنظير الدماغي يمكننا من التعرف على الخواص الوظيفية و العصبية للحالات الذهنية و لا يمكننا من معرفة الخواص "القصدية" و الغايات التي تتحكم أو توجه هذا النشاط أو نوعية المعلومة المعالجة. نتعرف مثلا على أن الأمر يتعلق بادراك بصري، و لكن ما محتوى هذه الصورة البصرية المدركة؟ هذا أمر بعيد المنال في الوقت الراهن.
r هل الإنسان، هو، نتيجة أو علة لأفكاره؟
في الواقع حينما نسند لأنفسنا أفكارنا على أنها ـ خاصة نتجاهل أمر أن الطريقة التي دبر و يدبر بها الدماغ المعلومة المحصلة ترتبط في نفس الوقت بحالته الأولية، طبيعة المحيط الفيزيائي و الاجتماعي، ظروف النمو الذهني و البدني، و أخيرا الأنشطة اليومية.
إن القول المعتاد بان الفرد هو بمثابة ربان دماغه هو بدون شك تعبير استعاري بعيد عن الصواب و مدان من طرف العديد من الفلاسفة، " دانييل دينيت" على وجه التخصيص يرى إن التحليل الوظيفي للفكر لا يترك أي مجال لتصور خرافة الإنسان الحر و الكامل، هذا يعني أن الفرد ليس على خطأ حين يدعي القدرة على اختيار أفكاره و التحكم في أفعال اليومية، كل و احد يتعلم التحكم في سيولته و تدفقه الفكري لأجل بلوغ حالات ذهنية معينة: تخصيص وقته و مجهوده للتأمل أو التخيل أو التذكر...
لكن طبعا ليست مسألة إرادة خالصة و حرية ذاتية بل تتدخل تأثيرات الخواص البيولوجية للخلايا العصبية و العوامل المحيطية للسياق الاجتماعي و الحالة النفسية من حوافز و مثيرات معينة بدرجات متفاوتة. بمعنى نهائي أن كل فرد هو ما تسمح به امكاناته الدماغية و البيئية.
r ما معنى أن تكون ذات مفكرة ؟
ـ من الممكن أن يكون تفكير بدون أن تكون الذات بالمعنى القوي القدرة على قول أو الوعي بأنا، و هي إمكانية تنطبق على العديد من الحيوانات، لكن الوجود كذات، كشخص، من خلال هوية ثابتة و موحدة عبر تغيرات الحياة يقتضي تشكيل أفكار معينة. الوجود كذات يشترط استخلاص تمثل لوحدة معينة عبر التدفق المستمر للحالات الذهنية. يمكن أن نقدم هنا جملة من التنظيرات الفلسفية، جون لوك على سبيل المثال يعتبر ديمومة الذكريات تمكن من بناء هوية شخص ما. البعض الآخر يشتق الهوية الذاتية من تجانس و ديمومة المقاصد و الأفعال،
في كلتا الحالتين، يبدو في نظري، أن الأفكار التي يشكلها الفرد حول ذاته ليست اختراعا فرديا خالصا. يتعلم الفرد كيفية إدراك فردا نيته كعضو مسؤول في جماعة، تتغير فيها المقتضيات و الشروط تبعا للزمان و المكان. إجمالا يبدو الوعي الذاتي مسالة معيارية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Hors –série sciences et avenir /Avril 1998.