فلسفة الكفاية في تعليم الفلسفة
محمد سعد
أستاذ مبرز في الفلسفة
نيابة أنفا ـ الدار البيضاء
أغلب المطالب التي يعبر عنها الطلبة – الأساتذة أثناء سنة التكوين بالمدارس العليا للأساتذة تدور حول التصريف الديداكتيكي للأفكار الفلسفية، و تبسيط هذه الأفكار المركبة التي تقدمها النصوص الفلسفية حتى تكون في متناول التلميذ.
لكن هذه الكفايات و إن كانت أساسية و جوهرية في فعل تدريس الفلسفة في السلك الثانوي التأهيلي فإنها في واقع الأمر تستدعي كفايات و قدرات أخرى يجب أن تتوفر في أستاذ الفلسفة، منها ما هو مرتبط بكم و كيف المعرفة التي يتوفر عليها هذا الأستاذ بتاريخ الفلسفة، و قدراته التواصلية مع المحيط الاجتماعي المدرسي إضافة إلى جوانب أخرى دينامكية ترتبط بشخصيته بشكل عام.
لكن لاشيء في التكوين الأكاديمي يسمح بالاستجابة الكلية لهذه المطالب، و من الممكن فقط فهمها و تفهمها باستمرار و محاولة بناء بعض التشكيلات الديداكتيكية التي تستجيب بشكل أفضل لهذه الانتظارات.
ما أقترحه هنا لا يعدو أن يكون سوى مجموعة أفكار أرفقها بمقترحات أنشطة ديداكتيكية.
و يعبر هذا المقال عن ثلاث مجالات: المجال الأول فلسفة الأخلاق عند أرسطو و الثاني ابستومولوجيا الفكر العلمي و أخيرا ارتباط الفلسفة بالديداكتيكا.
يقدم أرسطوا في كتاب »الأخلاق إلى نيقوماخوس« نظرية الفضيلة، تقوم على شرط أن يتمتع الإنسان منذ البداية على ملكات طبيعية، لأجل أن ينمي أو يكتسب استعدادات الفضائل، هذه الأخيرة هي عادات حسنة فكريا و أخلاقيا، يتعلمها الإنسان بفعل العادة و محاكاة الأفعال الفاضلة، كما لو كان الأمر يشبه لحد كبير إعداد رجال في الرياضة، إذ يطلب منهم أن يقلدوا نماذج من الركض و القفز تعرض أمامهم باعتبارها نماذج مثالية، وبفعل التكرار و الجهد تصبح حركاتهم أكثر رشاقة و تناغم إلى حد أنها تبدو للآخرين كما لو كانت طبيعية فيهم. كما أن النفور الذي تولده في النفس عند بداية الاكتساب بفعل الجهذ و الفشل و المشقة يتحول بالتدريج إلى متعة يجدها الرياضي في نفسه عند أداء هذه الحركات و النجاح في ذلك.
كما أن الفضائل تختلف تبعا للوضعيات التي تتم فيها و الاستعداد الذي تشترطه أو تحركه فكل وضع يستدعي في الواقع ذكاء عمليا لفهم خصوصيته حتى نتمكن من التصرف السليم في إطار ظروف محددة و ملموسة؛ إذ لا يكفي أن يكون الهدف نبيلا حتى تكون الأفعال حسنة على أننا لا نتحدث عن الغايات و إنما عن الوسائل لبلوغ هذه الغايات يجب فهم ما يجب القيام به و متى و أين و كيف يجب القيام بذلك.
يقر أرسطو بتداخل هذه العوامل كلها مجتمعة، و لا يكون أي واحد منها لوحده كافيا لترسيخ هذه العادة الحسنة، كما أن كل فضيلة تستدعي فضيلة أخرى أو تنميها لأن الإنسان قادر على تطوير ما لديه بالخلقة بفعل الاكتساب و تعلم فضائل جديدة.
ما يمكن استخلاصة مما سبق؛ أن بعض الأحوال و الأعراض السيكولوجيا ضرورية في البداية و النهاية، في البدء تكون الرغبة و الإرادة: فاللذة و الألم يشكلان الأرض التي تتحرك فوقها الرغبة، فالجاذبية و الإثارة تجعلان كل شيء سهلا، و مهما، و ممتعا. أما المعاناة و الألم يجعلان كل شيء عسيرا و مملا؛ كما أن المتعة الناجمة عن سهولة و رشاقة الفعل ضرورية في التعلم، فالفضيلة إذن تمنح أو على الأقل تثير في النفس لذة إذا ما تيسر أن أصبح الفعل يسيرا.
و ليس الكفاية بمعنى خاص كفاية، علما أنهما معا عادات حسنة، و لا يشك أحد في أن بيداغوجيا الكفايات تشترط منذ البداية حافزا، و هدفا نبيلا، و تسعى لخلق فضيلة، و اكتساب المتعلم عادات حسنة، وتطويع نفسه لطلب اللذات العقلية و الخلقية، دون أن تجد في ذلك ممانعة أو عواصة. و لا يجب أن يحملنا هذا التصور على أن تمثل هذه البيداغوجيا على شكل قوالب صورية و جاهزة يغيب عنها روح العقل و الذكاء و الحركة الشخصية؛ إذ أن أي سلوك يتطلب دوما فطنة، و مهارة، و عقلا عمليا، يحسن تحليل الوضعيات و يفهم الحدود و الكيفيات المناسبة لأن يخلق النغم المطلوب بين كل حد و حد و كل كيفية و حد. و نفس هذه القواعد مطلوبة في معلم الفلسفة، لأن العادة الحسنة تأتي من رجل حسن، و لا يمكن لم لا قدر له من الفضائل أن يعلم الفضيلة لغيره.
فالمتعلم يجعل من معلمه بداية قدوة، و يضع عمله نصب عينيه ليقتفي أثره. و من هنا يحرض فقهاء التعليم على ضرورة أن يتوفر المعلم على بالقدر الكافي كما و كيفا على ما يطلب من المتعلم.
تعقد الكفايات:
و كل كفاية و إن كانت نظريا بسيطة، فهي عمليا على درجة في التركيب و التعقيد لأنها تتطلب قدرا من القدرات في الذات و الشخص لكي يتحقق الفعل أو الإنجاز.
و بوسعنا أن ننظر في هذا التركيب من مناحي متعددة. و قد يؤدي هذا إلى حصول التباس في الأذهان؛ فمن جهة لا بد من تحريك جملة من الاستعدادات الفطرية و الأخرى المحصلة بفعل الخبرة و التعلم، و من جهة ثانية لا بد أن يكون الفاعل مالكا لقدر ضروري من المعلومات و المعارف، لأن الجهل يعيق التصرف الحسن أو غالبا ما يفسده، لهذا ما أحسن جاهل فعلا، و إن حصل و أن تصرف وفق ما تقتضيه الفضيلة يكون فعله من أفعال الصدفة.
و نحن هنا نتكلم عن الكفاية كحاصل لفعل العقل الواعي و المتبصر الذي يعلم و يحسب كل شيء دون أن يترك أي شيء لعوارض الصدف، لكن التجربة، علمتنا أن العلم الوافر لا يضمن سداد العمل، كمثل العارف بكل أنواع و فنون رياضات الجري لكنه مقعد أو مشلول لا يقوى على تحريك أطرافه، و نفس الحال يصدق على الكفاية، فهي الأخرى تطلب ليس العلم النظري فقط و إنما مهارة الحركة العقلية أو العلم العملي، بمعنى العلم بأصول التفكير و استعمال العقل. و لا يجب أن نغفل هنا، ثقل عامل الزمن، في الحكم على مصير النجاح في اكتساب المتعلمين هذه الكفايات، إذ أن تعليمهم ذلك يفرض
نمنح للمعلمين بكرم وقتا يمكنهم من إنجاز مهامهم و متابعتها و تقويم ما تبين اعوجاجه، لأن ضيق الوقت يولد ضيقا في النفس و هلعا يذهب الراحة و يقضي على كل متعة.
و مما سبق، يرشح الإشكال الديداكتيكي التالي: كيف نركب بين العناصر السالفة في بناء الكفاية بعيدا عن كل تلفيق أو اصطناع؟.
لو صوبنا نظرنا نحو واحدة من الكفايات الأساسية و هي بناء المفهوم او ما يسميه البعض » بالمفهمة« أو » التصورية« على أن تحليل هذه الكفاية في تركيبها لردها إلى عناصرها الأولية بغية فهمها و إدراك طرق إنجازها.
و »المفهمة« تنشأ بشكل حدسي في فترة الشباب و بشكل عقلاني و منظم في مدارس التعليم، و بشكل مخصوص في درس الفلسفة. فالمفهمة إذن، هي فن تفكير، ذو مبادئ و أصول نتوخى من المتعلم أن يمتلكها في نهاية مقامه في الدرس الفلسفي، و لكنها تطلب اللجوء باستمرار لقدرات أخرى لدى المتعلم، دون أن يكون بعض هذه القدرات قابلا للتعلم ضرورة. و تنظيم هذه القدرات، و طرق توظيفها هو ما يجعل المتعلمين متفاوتين في خواص شخصياتهم و مداركهم، مما يجعل القلة منهم فطنة و سريعة التعلم و أكثريتهم متوسطة أو قليلة الذكاء و لا تبدي استجابة بالقدر و الكيف المطلوب للتعلمات.
و يفرض المقال علينا في هذا المقام أن نميز بين ثلاث لحظات ذات أهميات متفاوتة داخل حركة »المفهمة« أو بناء المفهوم.
P اللحظة الأولى: القدرة على الانتقال من الوقائع إلى المفهوم، و إذن من المعاينة اليقظة لمعطيات الخبرة المعاشة، و القدرة على تحليلها و تفكيكها إلى عناصرها و طرح فروض بشأنها طلبا لفهمها، و بعد ذلك القدرة على المرور من المجزء إلى المركب، من خلال إعادة تشكيل بنية الموضوع داخل قالب لغوي و تعبيري شخصي مع المحافظة على روح المعنى و الفهم المحصل في التساؤل و التحليل و الافتراض، فالكفاية ها هنا تستدعي منا استنفار قدراتنا على التفكيك و الخيال و التركيب و التعبير و غيرها.
P اللحظة الثانية: القدرة على الحركة المجردة، أو التحرك برشاقة في حقل المجردات، فعلى المتعلم هنا أن يبدي شجاعة في الابتعاد عن المتشخصات و المدركات المحسوسات، لينغمس أكثر في بحر الأفكار المجردة، و أن يتحرك داخل تاريخ الفلسفة من تصور إلى آخر. لكن تربية المتعلم على التجريد ليست مطلبا يسيرا، و غالبا ما تخلق مشاكل جمة و تعترضها صعوبات يشعر بها المعلمون. لأن الحركة العقلية المجردة تنفصل عن أرض الملموس، الذي يطمئن إليه المتعلم و يسكن لوضوحه و بداهته الحدسية المباشرة، كما أن التجريد لا يخضع لأصور أو قواعد واضحة و يسيرة في التعلم، بل هي حصيلة مكابدة شخصية طويلة ترسم في العقل طريقا حدسيا، أشبه بنور لطيف يتلون بألوان غريبة يصعب وصفها، كما يصعب أن نضعها في قواعد مدرسية، و هو نفس حال أهل المتصوفة و أهل الحال، يكتشف كل واحد منهم طريقة إلى الوجد و اللذة الروحية بكده و طرق و قدر تحمله الخاص، دون أن يكون طريق الواحد منها صالحا لغيره.
و نحن حين نهم بقيادة المتعلم نحو فضاء التجريد نلمس لديه ممانعة، كممانعة الطفل الصغير في اقتحام الأمكنة المظلمة زد على ذلك أننا نطلب من المتعلم في فن المفهمة أن يبدي براعة أيضا في ربط المجردات بالمشخصات، بأن يجد مقابلا عينيا ووضعا معيشيا لكل مفهوم و تصور. الشيء الذي يفرض عليه أن يكون ملما بالمعيشي و المجرد في نفس الآن، و هي خصلة لا تتوفر في الواقع إلا لأهل الحكمة البالغة.
P اللحظة الثالثة: إن تأهيل المتعلم و إعداده لبناء التصور و المفهوم يستدعي أيضا تنمية القدرة لديه على اكتشاف و تعلم فن استعمال المفاهيم و المصطلحات الفلسفية، التي يطلق عليها أهل الفلسفة (تدريس الفلسفة) بالمعالم، و هي أدوات في خدمة التفكير و صور لاستعمال العقل، و هي التي تعد قاموس الفلسفة.
و أخيرا تشترط هذه الكفايات استخداما للغة، و القاموس، و الثقافة الشخصية و النصوص الموظفة وفق قواعد لعب محددة.
تتطلب كل واحدة من هذه المقاربات لبناء كفاية المفهمة عناية خاصة، و مراسا و فطنة غير منقطعة للمعلم في إبداع التمرينات النوعية و تكرارها حتى تترسخ أثارها في ذهن المتعلم.
و لا ريب أن كل هذه الأعمال تتطلب أن يوضع رهن إشارة المعلم الوقت الكافي الذي يسمح له بتحقيق إنجاز مقبول بعيد عن أي شعور بضيق الزمن و العجلة.
لقد قدمنا هذه اللائحة الطويلة – و الغير الكاملة – لاظهار أن بناء التصور لا يعدو أن يكون سلسلة من الكفايات المختلفة فيما بينها و المتفاعلة تسند الواحدة الأخرى.
لكن يفترض أن يكون المتعلم قد تعرف عليها و اكتسبها سابقا قبل ولوج الدرس الفلسفي؛ لأن الدرس الفلسفي على خلاف ما يعتقد الجميع ليس مطالبا بأن يعلم المتعلم هذه الكفايات، بل أن دوره ينحصر في إضفاء اللباس الفلسفي عليها. و ما يدفعنا لقول هذا هو محدودية الإمكانيات و العدة الموضوعة في متناول الدرس الفلسفي، فالغلاف الزمني للحصص يتقلص بالتدريج، و المقرر الدراسي يزداد كثافة، و المطالب البيداغوجية لا تتوقف عن التعقيد و الضغط على كاهل المعلم. بيد أن الكفايات الجزئية التي تندرج تحت كفاية بناء التصور أو المفهمة، من قبيل التحليل و التركيب و الاستشهاد هي نوع الكفايات المستعرضة التي تحضر في كل مواد التدريس؛ وليس من باب الفطنة أن نزعم أن الدرس الفلسفي هو أولى من غيره لأن يعلم المتعلم ما معنى و كيف يتم التحليل أو التركيب؛ و ليس بوسع الدرس الفلسفي في حدود شروطه الصعبة سوى أن يصبغ هذه الكفايات بصباغة فلسفية، أما قواعدها أو أصولها فيفترض أن المتعلم قد حصلها طوال سنوات التعلم السابقة في مواد دراسية متعددة.
و يمكن للناظر الفطن أن يتبين أن بعض الكفايات دون غيرها تحضر قوية في الفصل و تكون قابلة للتعليم و التطوير، كما أن المتعلم يبدي علامات حسنة في تعلمها و يبطئ و قد يتوقف في تعلم أخرى.
كيف يمكن أن نعلل هذا التفاوت في التحصيل؟
بداية، لا بد من القول أن المعلم نفسه يميل نحو كفاية بعينها و يهمل أخرى، و لا يحصل أبدا أن يعامل كل الكفايات بنفس القدر من الاهتمام و الحماسة. و نزيد هنا أثر شخصيته و ثقافته و استعداداته الأخلاقية و طباعه، كما تضاف عوامل تخص شخصية المتعلم و ذوقه وميولاته و قدراته العقلية و ظروفه النفسية و الاجتماعية.
و نحن نتجه في هذا المقام لترسيخ الفرض بأن تعلم هذه الكفايات من حيث كمها و كيفها و جودة هذا التعلم مرتبط بعدة شروط و عوامل ليس كلها عقلاني، بعضها يتصل بالعواطف و الوجدانيات و الأذواق و البعض بالإرادة و البعض الأخر بالنفع و الغاية. و قد يحصل أن يميل المتعلم لكفاية معينة، أو أننا نلاحظ لديه استجابة و خفة في الاستيعاب لأنها مفيدة في الحياة العامة و تصلح لأن تكون قاعدة للسلوك و التصرف خارج نطاق الدرس و قد تؤول هذه الاستجابة كضرب من التهرب و النفور مما هو مدرسي لما يطبعه من قوانين و قواعد منفردة، و طلب لما هو فسيح ورحب و حيوي. كما أن هذه الكفايات تضمن لنفسها الدوام في ذهن المتعلم و تجد مكانا في طباع نفسه و لا تتلاشى عن توقف الدرس أو الدراسة؛ أما الكفايات ذات الصبغة المدرسية و الجدوى الإمتحانية مهددة بالزوال السريع.
أفكار حول فن تعليم الفلسفة:
لا ريب أن التفكر في طبيعة الكفايات يمنح للمتفكر فهما لمهنة التعليم و يخيل لي أن فحص الحال الفلسفي من شأنه أن يقودنا نحو تجديد في الطرق و تشذيب للقواعد و الأصول في تدريس الفلسفة. و لأننا نجد في أنفسنا هذا الهم، نشرع في مقاربة صعوبة هذه المهمة بطرح السؤال التالي: ما هي الكفايات التي يتعين حصولها لدى معلمي الفلسفة لكي يعلموا متعلميهم كفايات فلسفية، كما سبق إحصاؤها سالفا ؟.
أود أن أطرح ها هنا بعض الأفكار من خلال استعادة عناصر من فلسفة المعلم الأول أرسطوطاليس، بغية الجواب و لو جزئيا على السؤال.
أولا: أثبت أرسطوطاليس أن الإنسان يظهر تطورا انطلاقا مما هو في طبعه و حاله. و يتوجب على معلم الفلسفة، بداية، أن يتعرف على ذاته و أن يكتشف شخصيته و أن يقدر مواهبه و كفاءاته لكن هذا الانتباه للذات ليس حاصلا للجميع، و ليس بديهيا أن نكون مهيئين كلنا و دوما للنظر لصورتنا على المرآة و لكم هو شاق على المعلم أن يعيد قراءة درسه و تحليل مفاصله، و فحص أفكاره و دلائله. و قد يحصل أن يتوفق المعلم عندما يتحقق من درسه ما لم يتحقق، لكن لن يذهب بعيدا في هذا الأمر، كأن يحلل قدراته و الاعتراف بعيوبه و القصور الذي يعتري شخصه و طرق تصرفه. و لو سلمنا بأن بعض المعلمين يمتازون بهذه الشجاعة في محاسبة الذات، فهل ينجحون في تعليم التلاميذ الكفايات المطلوبة؟.
و من غير اللائق أن يعترض عليها معترض في قولنا أن الكفايات تضرب جذورها في تربة الوجدان و الذوق و العاطفة، و أننا نخجل دوما من أنفسنا و نهرب منها إلى الأمام، بسبب انعدام التعود على استبطان أحوالنا و أنفسنا. و التعليم يتغذى باستمرار من هذه الشجاعة و الشفافية و الوضوح في مواجهة النفس. و ليس مطلوب من المكونين المعلمين في المدارس العليا أن يصقلوا طلبتهم وفق نفس القالب و المقياس، و إنما تقديم العون لهم في أن يتعرف كل منهم على ذاته و أن يفهم و يتفهم ما لديه و ما ينقصه و كيف عليهم أي يستثمروا كل ذلك في مهنتهم، و أن يرشدوهم إلى كيف يستكملون نقصهم .
ثانيا: ما قاله أرسطوطاليس لا يصدق فقط على المعلمين و إنما على المتعلمين أيضا؛ فالكفاية التي تكون أكثر من غيرها قابلة للتحقق؛ هي ما تكون أشد ارتباط بحال المتعلم، و تتناسب مع ما في ذاته من هموم و أغراض و استعدادات. الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن المعلم مطالب دوما بملاحظة المتعلم و الإقتراب منه و طلب فهم أحواله و قياس استجاباته، و التكوين في المدارس العليا للمعلمين مطالب أيضا بتمكين المعلمين من تطوير حدوسهم و فنهم في إدراك أحوال و أذواق و أمزجة متعلميهم. فمن الحسنات المطلوبة ها هنا أن ينوع المعلم في سبل التعليم و أن يخترع من الطرائق و الوسائل ما يمكنه من طرد الملل و النفور لأن تكرار نفس المسالك يسد شهية التعلم و يقلل من شوقه و تشوقه في طلب المعرفة. و من الملاحظ أن المعلمين الجدد، الذين تخرجو لتوهم من المدارس العليا لمعلمي الفلسفة يميلون بقوة للتشبت بالطرائق التي اكتسبوها أثناء تكوينهم، و لا يكلفون أنفسهم في السنوات الأولى في مهنتهم عناء التفكير و البحث عن سبل أخرى؛ و لن يمكنهم مراجعة ما لديهم إلا بعد أن يمتلكوا خبرة في الميدان و تشرع بعض الصعوبات في توليد التساؤلات في اذهانهم، إن هم كانوا مداومين على فحص ما ينجزونه في فصولهم.
ثالثا: يطلب منا أرسطوطاليس استخدام آلة العقل العملي، لأن كل عادة حسنة لا تتحقق إلا في وضع خاص، و حال فيه شروط معينة، و هذا العقل هو ما يدعوه البعض بالذكاء و التبصر، و السرعة في التكيف من خلال اكتشاف الأوضاع و قراءة الأحوال و الاستجابة الملائمة و العاجلة و هذا العقل ليس كونيا و لا حاصلا لجميع الناس، و لا يقبل التعليم في الجامعات و لا المدارس العليا و إنما هو عقل مستفاذ من التجربة و الأوضاع التي يخرج فيها الدرس إلى الفصل؛ و يدخل هذا الذكاء أو العقل العملي في صلب هذه الكفايات، و لنقل أنه المبدأ الذي يخرج كل كفاية من القول إلى الفعل.
و من الواجب الاعتراف للمعلمين المتخرجين من المدارس العليا لتعليم الفلسفة بعظم الكف و الكيف في المعارف التي حصلوها، لكنهم في الغالب لا يحسنون في بداية مباشرة مهنتهم الوصول لطريق أو الطرق المناسبة للوضعيات و الأحوال التي يباشرون فيها عملهم و من المألوف سماع شكاوي المعلمين الذي التحقوا بالقرى و المناطق النائية، حيث يصعب العيش، و تنعدم الوسائل و تضعف الخصال و الاستعدادات لدى المتعلمين، أن ما تعلموه من فنون في مدارس التكوين لا يناسب الأوضاع التي يوجدون فيها. ومع ذلك نراهم متشبتين بما تعلموه و يقاومون الظروف الصعبة لاستخراج بعض ثمار مما تعلموه و يعلمونه، و لكن ما ينقصهم في واقع الحال هو العقل العملي حسب ما قاله أرسطوطاليس، فلا يحصل أبدا أن تكون الأحوال مواتية للجميع، و أن تتوفر أحسن الشروط في كل البقاع. و المطلوب في المعلم الفنان أن يتغلب على الصعاب و أن يخرج الحي من الميت، و اللطف من القسوة، و أن يستخرج من نفسه ما يفيده في إنجاح مهمته، و ذلك بالحرص على تناسب الوسائل و الطرق و المعارف مع القدرات و الأحوال و الاستعدادات التي تخص المتعلمين.
و ليس من الحق من يزعم أن تعليم الفلسفة يناسب أهل الحواضر، و المدن العامرة، و حسبنا نقول ها هنا، أن فضيلة الفلسفة من النعم الكونية، التي لا يجذر بأي مخلوق بشري أن يحرم نفسه منها؛ و الشاهد على قولنا، أن المتفلسفين من العرب و المسلمين، عاشوا في ظروف هي بالقياس على ما يعيشه أهل البوادي في زماننا، أقل راحة، و لكنهم رجال أظهروا من رباطة الجأش و القدرة على التعلم و التعليم، فلا خير لنا في التخفي وراء الشروط، فتعليم الفلسفة ممكن في كل الأحوال، و ما يعسر الأمر في الغالب هو سوء تقدير الطريقة، و نقص في تكييف المعرفة و المطالب مع الأوضاع.
و المعلمون في الحواضر و المدن المزدهرة هو أكثر من غيرهم راحة لما يتوفرون عليه من أدوات و إمكانيات موضوعة رهن إشارتهم. و المتعلمون أكثر نباهة لما في ذواتهم من استنفار و يقظة حاصلة بفعل الحياة المريحة و المشوقة التي ينعمون بها بالقياس مع من هو في البوادي و الأرجاء.
رابعا: تلتقي الكفايات و العادات الحسنة( الفضائل عند أرسطو) عند نقطة الاكتساب بفعل العادة و التكرار لكن هذا التكرار يطرح مشكلا إضافيا على كاهل من هو مكلفون بتكوين معلمي الفلسفة، و على المعلمين أنفسهم، إذ عليهم أي يلفتوا انتباه المعلمين المتدربين إلى أهمية التوظيف المتكرر للمكتسبات القديمة، في وضعيات مختلفة. و يقود هنا الشرط الفني إلى وضع المعلمين في مفارقة يعسر أحيانا عليهم حلها: كيف يمكن خلق تواطؤ إيجابي بين التكرار، بما هو تثبيت لنماذج، و التجديد بما هو انتزاع ذات المتعلم من الوضعيات المألوفة.
لأن التكرار المطلق يسجن ذهن المتعلم في نماذج معطاة و يقتل قدرته على التعاطي الحسن مع وضعيات جديدة؛ كما التجديد المطلق يشوش على ذهن المتعلم و لا يترك له فرصة لتثبيت قاعدة أو مبدأ.
خامسا: تحدث أرسطو عن الرغبة كشرط اساسي في تعلم السلوكات الحسنة، و هذا الشرط يسمى في عصرنا باللغة الجديدة للسيكولجيا بالحافزية و يمكن لأي معلم للفلسفة أن يلاحظ بيسر شديد أن التلاميذ يتعلمون دائما ما هم واعون به مسبقا، و هذا يتطلب من معلمي الفلسفة أن يتوقفوا بعض الوقت عند التصريح بغاياتهم و أهدافهم من كل حصة أو مفهوم أو مجزؤة.
كما هو شان المسافر الذي يستبد به القلق لأنه يجهل الطريق، و السائق لا يصرح له بخارطة السفر فتكون متعته بالسفر و تأمله لمناظر الطريق مشوشة بالخوف و القلق. كلما رسمنا المسالك للمتعليمن، أو طالبناهم بفعل ذلك زاد إدراكهم وضوحا، و كان انخراطهم مضمونا، و يكتشفون رغبتهم في التعلم لما يتيح هذا التدريس من فرصة للقرار و إدارته بمعية معلميهم.
عندما يتعرف التلميذ على الأهداف و الوسائل و يكون مساهما في بناء الطرق و المعارف يتحول المعلم إلى مدرب و مرشد يقود التلميد على طريق يمشي عليه مستعملا رجليه و كل حواسه و قدراته دون أن يحمله فوق كتفيه أو بين ذراعيه؛ و هذا هو المعنى الذي قال به أهل اليونان في البيداغوجي أي الرفيق الذي يقود الأطفال على الطريق.
و لكي يتحول المعلمون إلى مرافقين و بيداغوجيين حقيقيين بالمعنى اليوناني لا بد أن نمنحهم الوقت اللازم لهم لكي يجدوا الفرص الضرورية لإنجاز التقديرات و القياسات أو ما يسميه البعض منا بالتغذية الراجحة للتعرف على درجات استجابات التلاميذ و تشخيص الصعوبات التي تعترض كل واحد منهم كما يستحسن أن يشارك المتعلمون في هذا التشخيص و ذلك بتعليمهم بعض قواعد و مؤشرات التقييم الذاتي؛ ذلك أن الاكتساب الجيد يتطلب التقويم و التصحيح و التثبيت باستمرار، و من غير الممكن إنجاز ذلك إذا كان المعلم في عجلة من أمره، لأن حيز الزمن ضيق بفعل عدم تناسب كم المعلومات الواجب تلقينها مع الكم الزمني المخصص لذلك، مما يدفعه إلى القفز و إهمال ترسيخ القواعد و تشخيص التعلمات، و يضظر إلى إعطاء ملخصات عامة، أو الإملاء أو إلقاء خطب، إلى جانب ذلك لا بد أن يكون التكوين الذي يقدم للمعلمين في المدارس العليا أن يساعدهم على اكتشاف قدراتهم و تنميتها لأجل توظيفها في فصول التعليم. و نميل ها هنا للقول: إن كان من المطلوب أن يصبح المتعلمون ممارسين للتفكير أو مفكرين، فلا بد أن يكون المعلمون متوفرين في ذواتهم بالقوة و الفعل على هذه الفضيلة.
سادسا: يوجد بين القوة و الفعل عند أرسطو نوع من التوثر و لكي يحصل تعلم الكفايات لا بد من تجاوز الملل و اللامبالاة، و السلبية، و النقل.
يجب أن يتوفر في ذات المتعلم قدر من الطاقة النفسية و الذوقية التي تحفزه نحو التعلم و طبيعة هذا الحافز تشتمل على توثر بين حالين: الجهل و الرغبة في العلم؛ و عندما يتوفر هذا الحافز بالقوة لا بد من نقله إلى الفعل، و هي مسؤولية المعلم في التوسط بين المتعلم و العالم، لا يقف دون المعلم عند التلقين فقط، بل يتعداه وجوبا إلى إثارة نفسية، ووجدانية، و فكرية للمتعلم بأن يشعل في نفسه تلك الشهوة و الرغبة، و أيضا الثقة، و اليقين بضرورة بذل مجهوذ و هو ما يمكن تسميته بجمالية المجهوذ.
تفكير في كفايات المعلمين و كفايات المتعلمين:
بما أننا سألنا تلاميذ في الطور النهائي لسلك التعليم الثانوي التأهيلي إن كانو قد تعلموا بعض الكفايات من دروس الفلسفة، و إن كانت إجابات جلهم بالسلب، فإن القليل جدا منهم صرحوا باكتسابهم لبعض الأمور ذكروا: الصرامة في التفكير، و الدقة في التمييز، و حب التجريد، ومتعة طرح التساؤلات و المشكلات الكبرى، و اللذة في قراءة النصوص، و القدرة على ممارسة النقد و التحليل، و الاهتمام بالمذاهب و المدارس الفلسفية.
تتضمن لائحة هذه المكتسبات من جهة على أمور وجدانية تم التعبير عنها بالحب، و المتعة و اللذة، و من جهة ثانية على أمور متصلة بما هو معرفي و ذهني مثل الصرامة و الدقة. و من جهة ثالثة على أمور تتعلق بالوسائل و الأدوات من قبيل النقد، و التحليل، و القراءة و التساؤل.
لكن هل يمكن اعتبار هذه التعلمات كفايات؟ و المشكل الذي ينطوي عليه السؤال يكمن في المعيار الذي نميز به بين الكفايات و ما ليس بكفايات. ربما يميل المتعلمون إلى اعتبار ما تعلموه كفايات لأنهم ببساطة يستثمرون ذلك في حياتهم خارج درس الفلسفة، لكن لماذا يعتقدون أن تعلمهم لهذه الأمور تمر في درس الفلسفة ؟ و قد تكون هذه القدرات و المهارات حصلت لديهم قبل وخارج درس الفلسفة.
ربما أن درس الفلسفة يشدد في أهدافه على هذه القدرات و يمنحها شكلا مكتملا و متكاملا و عميقا و ناضجا يجعل المتعلم يقع في وهم تعلمها داخل درس الفلسفة و ليس قبله أو بعده. هل من المقبول أن نسمي هذه التعلمات كفايات ؟ من الملاحظ أن هذه التعلمات لا ترد كلها إلى معارف و محتويات، و لا إلى قواعد سلوك ميكانيكي، و لا إلى أدوات ذات استعمال نفعي، يوجد بين هذه النقط ما هو أساسي: تملك المعرفة و تنظيمها و تحويلها من أجل استخدامها في وضعيات متنوعة.
و لا يجوز أن ننظر لهذه الأمور دون استحضار الجانب النفسي و الوجداني المرتبط بالرغبة و الذوق في تملك و تحويل و استخذام هذه التعلمات، هل الأمر يتعلق ها هنا بكفايات ؟ الجواب بالنفي، على الرغم من كونها عادات حسنة و تعلمات جيدة يسعد المعلم بتلقينها للمعلمين.
لا بد هنا من إجراء تمييز أساسي: هناك العديد من الكفايات المتنوعة لكنها نوعية أو خاصة بدرجة معينة التي يتوجب على المعلم إمتلاكها لكي يبعث بعضا من الروح الحيوية في تفكير المتعلمين، و في الآن نفسه، لا بد من التساؤل حول وجود كفايات فلسفية خالصة يكون المتعلم ملزما باكتسابها في درس الفلسفة.
كل الكفايات التي سبق إحصاؤها أو تلك التي نقرأها في التوجيهات الرسمية لتدريس الفلسفة هي ذات طبيعة أفقية؛ و تكتسب قبل أو خارج الدرس الفلسفي و دور الدرس الفلسفي لا يتجاوز إكمال و إتمام هذه التعلمات السابقة، و يسمح بالوعي بها، ليس هذا الدور قليل الأهمية، بل هو جوهري في تحقيق هذه الكفايات الأفقية،
و إن حصل أن ظل المتعلمون يسثتمرون هذه الكفايات في حياتهم بعد الدرس الفلسفي، فذلك راجع لكونهم وجدوا متعة و لذة في ذلك، منحها إياهم الدرس الفلسفي؛ هل يعني ذلك غياب كفايات فلسفية نوعية، أم أن الدرس الفلسفي يشتغل على كفايات افقية فقط؟
الإطار الفلسفي ( التأطير):
تتضمن كل كفاية عنصرين أساسيين: إمتداد (مجال) و تضمن (علاقة) يطرح مجال تطبيق و ممارسة الكفايات مشاكل متعددة، فالعالم بأسره مجال للممارسة الفلسفية، باعتباره حقلا واسعا لوجهة النظر، و إرادة الفهم، و القدرة على التمييز بين ما له معنى و ما لامعنى له.
فالفلسفة تحدد فلسفيا إطار مشكلتها. و هذا التأطير هو مسألة اختيار بدرجة أولى: لأنه يكشف جانبا من الواقع و يحجب جوانب آخرى، و يثير الانتباه نحو بعض العناصر دون غيرها. فهو إذن ثمرة قرار ما نرغب رؤيته و ما نقرر تجاهله. لكن ماذا يكون هذا التأطير الفلسفي؟ هل هو نظر للأشياء من زاوية وجودها أو معناها أو دلالتها في ارتباط مع مصير الإنسان ؟.
يكفي لفهم مختلف أشكال التأطير، أن نستحضر هنا الفرق بين نظرة كل من العلم و الفلسفة للموت.
إن التأطير الفلسفي كفاية فلسفية ، لأن كل واقعة تكتسي دلالات متعددة و مختلطة في الحياة، و لا تمتلك بشكل قبلي أي طابع فلسفي، وبما أن نظرة الفيلسوف ذات عمق فهي تنزع نحو الحكمة و تطرح العلاقة بين الواقع و الحياة الخاصة للتأمل و التفكير.
و من المهام الأساسية لمعلم الفلسفة أن يعلم فن التأطير مستعينا في ذلك بالمثال، و العادة، و الصبر، و العشق، عليه أن يواضب في ممارسة التأطير حتى يتعود المتعلمون على ذلك و يكتشفون متعة النظر الفلسفي للعالم أو لنص فلسفي. و لا يبتعد هذا التأطير قط عن المتعة أو الرغبة، لأن الناظر لا يرى من العالم إلا القضايا التي تهمه و تنسجم مع رغبته، و لا شك أن تعلم التفكير في العالم هو أيضا اكتشاف للحرية الذاتية، مادام هذا التفكير هو نظر من زاوية شخصية، و تبعا لإرادة ذاتية، و قرار و موقف يبنيان تبعا لحدوده و أذواق خاصة، تحد من تبعية الذات للعالم المعطى و التمثلات الجماعية الرائجة.
و من العيوب الكبرى التي لا تغفر لمعلم الفلسفة، أن يقصر بحثه في الفصل على الأمور التي يطرحها المقرر الرسمي لتدريس الفلسفة، و إنما عليه أن يوسع دائرة البحث لتشمل كل الأمور الحياتية التي تمس حياة المتعلم.
و لعل أكبر مصادر الملل و الكلل التي تقتل الرغبة و المتعة في نفس المتعلم، هي أن يجد فكره مقيدا في قضايا معينة، مختارة بعناية الحاكم و السلطة القائمة، من دون أن يجد نفسه معنيا بها، و هو الحال الذي ينطبق على تعليم الفلسفة بالمغرب،
إذ لا يخفي المتعلمون تذمرهم من المواضيع المقررة لابتعادها عن هموم حياتهم المباشرة و يظهرون اهتماما و متعة في المتابعة والنقاش حين ينزلق الأستاذ و لو عرضا إلى مشكلة سياسية أو إجتماعية يومية.
و لأن المتعلم يجد متعة في التعلم تظل العادات و المعارف و القواعد التي حصلها في درس الفلسفة راسخة في ذاكرته و حية في مخيلته ووجدانه.
و على هذا الأساس يصدق الفرض القائل بأن التأطير الفلسفي هو الكفاية الوحيدة بالمعنى الفلسفي التي يتوجب اكتسابها من طرف المتعلم في الفصل النهائي من التعليم الثانوي، و إن كان من الملاحظ أن المتعلم يكتسب و يطور كفايات أخرى، لكنها غير فلسفية بسبب أنها أفقية أو أنها قابلة للتعلم قبل أو خارج درس الفلسفة.
تكون المسؤولية الكبرى ها هنا على عاتق المشرفين على تكوين معلمي الفلسفة الجدد، لأن المعلم طيلة دراسته بالسلك الجامعي لم يسبق له أن تلقى دروسا مخصوصة للنظر، و التحليل، و التأطير، غير بحث كتاب أو مذهب فلسفي. و لم ينعم بمتعة فن النظر لهذه القطعة أو تلك من الواقع المعيش و هو مطالب لأجل أن يكون معلما محترفا في الفلسفة بأن يكتسب أصول هذا الفن من المشرفين على تكوينه بالمدرسة العليا لتكوين معلمي الفلسفة، الواقعة ببلدة تولال في حاضرة مكناس.
و من بين الأمور التي عليها تعلمها حسن التوسط بين المتعلم و العالم، و المتعلم و ذاته( ذات المتعلم) و رغباته، و اهتماماته، و فكره، و قدرته على فهم و تحمل مصيره الخاص، إن المعلم وسيط و كشاف للواقع كموضوع التفكير تبعا لنظرة الفيلسوف.
خاتمة:
كانت الغاية من هذا المقال أن نعرض الحجج في بيان أن الكفاية بالمعنى الدقيق و الضيق تقبل التعلم إذا ما كنا نملك في نفوسنا الرغبة، و الحافز، و إذا ما أصبح هذا الحال قطعة من حال حياتنا المعيشية، و طريقة جودنا.
كما قصدنا أن نكشف عن التعقيد الذي يسكن في جوف كل القضايا و المشكلات التي ترتبط بفن تدريس الفلسفة، و أن المعلم و المتعلم شركاء في بلوغ المقاصد النبيلة للتعلم.
و أخيرا أقول: إن كان تعلم الفضائل في نظر أرسطو يبدأ برغبة في بداية التعلم، و ينتهي بلذة في نهاية التعلم، فمن الواجب على كل غيور على درس الفلسفة من أهل المغرب أن يعمل مشكورا أو مأجورا في سبيل بث الروح في درس الفلسفة و هو رميم.
|