الفلسفة و الديداكتيكا



الفلسفــة والديداكتيــكا

الأستاذ : عبد الله زرهوني

تقديـــــــم :
لعل الصلة ثابتة بين ديداكتيك الفلسفة و بين المادة الفلسفية في ذاتها ، بما يضفي شرعية عـلى التساؤل حول شروط توفر " ديداكتيك الفلسفة " بالمفهوم الأكاديمي ، لأن طبيعة الـفـلـسـفـة بوصفـهـا مجالا معرفيا مفتوحا بشكل لافت ، تشي بصعوبة اندماجـهـا مع الديداكتيك داخـل بـؤرة واحـدة ، وهــو الموضوع الذي افترق حوله أصحاب النظر والإختصاص إلى فريقين اختلفت آراؤهما ، ولكن بما لـــم يمنع من حيازة الفلسفة لموقع مستقل ضمن النظام الديداكتيكي عامة .
يمكن القول بداية بأن »ديداكتيك الفلسفة «، تعتبر على حد تعبير أولئك الذين يحاولون جاهدين صياغتها وجعلها تتحقق فعليا، بمثابة »الخط الأحمر « للبحث في الديداكتيك بصفة عامة(1)، إذ وحدها ضمن كل المواد المدرسة في المدارس و الإعداديات و الثانويات، اتخذت مسافة ما من الأعمال المباشرة في هذا المجال منذ ما يزيد على ثلاثة عقود.
إن هذا الأمر، لا يرجع حسب المختصين بعلوم التربية، إلى وضع "مادة الفلسفة" من الناحية الإدارية والتشريعية، ضمن المواد الأخرى، من حيث القيمة المسندة إليها، والمعاملات المحددة لها، وعدد الحصص المخصوصة لها، ولا حتى، إلى النظرة السلبية إليها من طرف عامة الناس، أو من طرف بعض العلماء المتخصصين، بل يرجع بالأساس: إلى التمثلات الخاطئة التي ينسجها أغلب أساتذة "الفلسفة" حولها كمادة للتدريس.
ضمن هذا السياق إذن، يمكن التساؤل منذ البداية: هل الفلسفة ممكنة كديداكتيك؟ أو: هل يمكن الحديث عن ديداكتيك معينة للفسلفة؟ وما حدود هذه الإمكانية؟
إن مقاربة هذه الإشكاليات تقتضي منهجيا القيام بخطوتين ضروريتين لا غنى عنهما: تتمثل الأولى، في معرفة معنى "الديداكتيك" في جانب أول، بينما الثانية تقوم، في معرفة المقصود بـ "الفلسفة" في جانب ثان، حتى يتسنى التأكد من أن خصائص هاته، تتوافق مع مواصفات تلك.
1- الديــــداكتيــــك:
بالنسبة لهذه النقطة، لا يظهر أن هناك اختلافا كبيرا بين كل المهتمين بالموضوع، إذ يكاد يكون هناك إجماع بينهم – وهذا ما يتجسد حتى على مستوى المعاجم- بأن الديداكتيك مفهوم ينتمي إلى الحقل التربوي عموما، وإلى مجال البيداغوجيا خاصة، يدل عل كل: "نظرية أو طريقة للتدريس" (2). وكل التعاريف التي تمت صياغتها من طرف الباحثين في هذا المجال تنحو في هذا المنحى: ذلك أن MERIEU PHILIPE ، يدعو "المشروع الديداكتيكي للعمل على تسهيل نقل موضعي (قطاعي) لمعارف محددة" في حين يكتب LAURENCE CORNU و ALAIN VERGNIOUX ، بعد تمييزهما للديداكتيك عن اللبيداعوجيا، بأن "الديداكتيك تدل على فن أو طريقة تدريس المفاهيم الخاصة بكل مادة" (3). ويختزلان الهم الديداكتيكي في الانشغال العلمي بتدريس معرفة ما بكفيفة صحيحة وبأمانة، حسب مقتضياتها الخاصة بها"(4). وهو ما يعني بعبارة أخرى جامعة: أن الديداكتيك هي فن أو طريقة نقل معرفة محددة حسب النظام أو المنطق الذي يشكل لحمتها وينحدر من طبيعتها وتميزها.
لكن، إذا كانت الديداكتيك فنا لنقل معرفة محددة، فلن تكون هناك ديداكتيك، إلا حيث تكون هذه الأخيرة وتنتظر نقلها. وهو ما يعني تبعا لذلك: أن ديداكتيك الفلسفة تفترض وجود معرفة فلسفية محددة.
هكذا إذن، يكون من اللازم في مقام أول: تحليل مفهوم "الفلسفة" لتبين ما إذا كانت وبأي معنى، معرفة، وما يشكل خاصية هذه المعرفة، كما يكون من اللازم في مقام ثان: مقابلة الاقتراحات المصاغة من طرف الديداكتيكيين للفلسفة بما يشكل الخاصية النوعية لهذه الأخيرة، بغية التأكد من توافق تلك الاقتراحات لها، وفي مقام ثالث، بذل نوع من الجهد، لتحديد شروط إيجاد ديداكتيك للفلسفة بكيفية إيجابية.
2- الـفـلسفــــــــة.
تدل "الفلسفة" من الناحية الاشتقاقية لكلمة (فيلوصوفيا)، على محبة الحكمة والمعرفة والرغبة في تحصيلهما، عن طريق إعمال العقل والمنطق، وركوب تجربة الشك والسؤال، والتحليل والنقد... الخ.
لكن، إذا كانت هذه الدلالة الأصلية للفلسفة، قد تقررت في البداية من طرف "فيتاغوراس"، حين فضل أن ينعثه الناس بمحب الحكمة وليس بالحكيم، اعتقادا منه أن الحكمة تخص الآلهة وحدها دون البشر، وإذا كانت قد تكرست عبر تاريخ الفلسفة، فإن التذكير بها هنا، يكفي لإثارة الانتباه إلى المفارقة الأولى التي تطرحها كل ديداكتيك ممكنة للفلسفة: فإذا كانت خاصية كل معرفة تكمن في قابليتها للنقل بواسطة فعل التدريس: فهل يمكن إيجاد أو امتلاك طريقة ستسمح بنقل المحبة والرغبة في...، إلى طرف يفترض فيه أنه في حاجة إلى ذلك، ولما يمتلكه بعد؟ هل المحبة والرغبة تنقل؟ هل يستطيع إنسان ما أن يعلم إنسانا آخر أن يحب ويرغب في...؟ .
وبغض النظر عما يطرحه الاشتقاق اللغوي لكلمة "فلسفة" من مفارقة كهذه، فإن المعنى الاصطلاحي لها، يطرح مفارقات وتساؤلات أكثر عمقا ودلالة: ذلك أن الفلسفة في نهاية المطاف، تبقى معرفة من نوع خاص، لأنها لا تعرف التخصص كما الفروع المعرفية الأخرى. فلا موضوع محدد لها كما في هذه العلوم. وهي لا تدرس شيئا محددا بعينه... بل هي كما لاحظ "ديكارت": تتناول كل ما يستطيع العقل تناوله سواء كان بديهيا واضحا، أم ملتبسًا وغامضًا،وسواء كان عاديا ومألوفا، أم كان شاذًا وغريبًا، وسواء كان يهم الإنسان كثيرا أو لا يهمه إلا قليلا.
ولأنها تفتقر إلى موضوع محدد، كذلك تفتقر إلى منهج محدد: إنها تغرف من كل المناهج وتستعملها حسب اتجاهاتها ومذاهبها. فهي تستعمل البرهان، الجدل، الخطابة، النقد، وتمارس التفسير والتأويل والتحليل... إلى غير ذلك، فتلجأ إلى العلم وإلى الفن، وإلى الدين... بغية تأكيد أطروحاتها. ولأنها لا تمتلك موضوعا ومنهجا محددين، تكون معرفة غير محددة. وإذا كانت هكذا، فهي تظهر على طرف نقيض مع كل ديداكتيك ممكنة لها. لأن هذه الأخيرة لا تكون إلا حيث المعارف محددة: إن الديداكتيك، كما جاء في التعاريف السابقة " نظرية وطريقة لتسهيل نقل المعارف المحددة في مجال من المجالات، وفق مقتضيات هذا المجال". وبعبارة أخرى: كيف يمكن إحداث نوع من التطابق بين أداة محددة الوظائف في جميع أبعادها، وبين مجال غير محدد بطبيعته، أي الفلسفة؟ ألا يقتضي ذلك منطقيا: تقليص هذا المجال وتحجيمه حتى يكون في صورة وهيئة ديداكتيك، يراد لها أن تكون خاصة به: هي ديداكتيك الفلسفة؟ وهل هذه العملية ممكنة أصلا؟ ألا تظهر عملية التقليص لمجال الفلسفة غير المحدد أصلا، ليكون متوافقا مع مقتضيات الديداكتيك كطريقة بيداغوجية لها مواصفات... ألا تظهر بمظهر كاريكاتور ترتسم فيه صورة من يحاول جاهدا تمطيط قبعة صغيرة لتغطية رأس كبيرة وضخمة؟ أو من يحاول الضغط على الرأس لتكثيفها وتركيزها حتى تكون في حجم القبعة الصغيرة؟
والفلسفة، بالإضافة إلى كل ما سبق، ومن الناحية الاصطلاحية دائما، تفكير على نمط خاص، ذلك أنها كما يشهد ميلادها: ظهرت كتفكير منطقي صارم، منسجم، مجرد، ونقدي... بالأساس، جاء ليناهض الخرافة والأسطورة والسفسطة والنزعة الوثوقية والتعصب... بغية تحري العلم والحقيقة. إن هذا التحديد للفلسفة، والذي لا يمكن لأحد أن يطعن في صحته كلية، وإن كان يؤسس لنظرة إيجابية تجاه الفلسفة تصل إلى درجة المدح والتقريض، يطرح حينما يتعلق الأمر بموضوع هذا "العرض" أسئلة ومفارقات أكثر استفزازا من التي سبقت إثارتها. مفارقات وتساؤلات تنصب أساسا على مدى قدرة ديداكتيك معينة للفلسفة للاضطلاع بمهام تشكل في جوهرها خصائص نوعية لهذه الأخيرة: فبأي معنى يمكن الحديث عن "ديداكتيك للفلسفة" تحقق كل هذه المطالب أو أغلبها الأعم لدى المتعلم: أي القدرة على التفكير المنطقي الصارم، المنسجم، المجرد، النقدي... المناهض للخرافة والسفسطة والوثوقية والتعصب...؟؟ وهل يمكن الحديث عن "ديداكتيك واحدة" للفلسفة التي ليست واحدة بالأصل؟ وأيضا: هل يمكن الحديث عن "ديداكتيك للفلسفة" بالنسبة لفاعلين تربويين مختلفين في كل شيء على التقريب: من حيث الوجود المادي، السيكولوجي، السوسيوثقافي، الذهني، اللغوي والحضاري بصفة عامة؟
وبصرف النظر عن هذا كله: إذا كانت أنواع الديداكتيك في الفروع المعرفية الأخرى (المعدة في شكل مواد جزئية قابلة للتدريس) تنطلق من "مادة جاهزة" تعمل فيها ومن خلالها، لتحقق الأهداف التربوية العامة، والإجرائية الخاصة بتلك المواد: فما هي "المادة الجاهزة" التي يجب أن تنطلق منها ديداكتيك الفلسفة؟ هل هذه "المادة" هي "الفلسفة" هكذا بإطلاق القول ودون تحديد، طالما أن الفلسفة تنفتح على كل المجالات ولا تعرف التخصص؟ أم هي "تاريخها" كمذاهب واتجاهات وتيارات؟ أم هي "الفلاسفة" أنفسهم، باعتبار أن كل واحد له فلسفته الخاصة به؟ هل هي "النصوص" و"المؤلفات" باعتبارها المجال الذي تتجسد فيه ثوابت التفكير الفلسفي لغة ومضمونا؟ أم هي "المفاهيم الفلسفية" تخصيصا؟ أم هي "الموضوعات" و"القضايا"... أم هذا كله؟
إن مجمل هذه التساؤلات، والمفارقات التي يطرحها مجرد التفكير في ديداكتيك خاص بالفلسفة، قد أدى إلى ظهور فريقين من المهتمين بالبيداغوجيا بصفة عامة، وبالديداكتيك خاصة: فريق اقتنع أمام هذه الاحراجات الابستمولوجية بعدم إمكانية صياغة ديداكتيك خاصة بالفلسفة، كما هو الأمر في المواد الأخرى، اعتقادا منه أن ذلك سيقتل لا محالة "الروح الفلسفية" عوض إنعاشها لدى المتعلم، واعتقادا منه، أن الفلسفة في حد ذاتها تحمل ديداكتيكها داخلها، وأن كل ما ينظر له في مجال البيداغوجيا مبتوت فيها بحكم طبيعتها كأمِ للعلوم...، وفريق اقتنع بعكس ذلك تماما مع إدراك الصعوبات التي يطرحها التنظير لهذا العمل وكذا العوائق الكثيرة والمتنوعة التي تحول دون النزول به إلى مستوى التطبيق.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن أهم الذين اعتقدوا في إمكانية إيجاد طريقة أو طرق خاصة لتدريس الفلسفة، على الرغم من كونها لا تشبه أيُّا من المواد المدرسة: M.TOZZI، L. CORNU، A. VERGNIOUX، P. MERIEU،ROLIN F. ، P. BARANGER، M. BENOIT، C. VINCENT... وآخرون(5). والقارئ لمؤلفات هؤلاء يدرك بأنهم – وإيمانا منهم بما يطرحه موضوع ديداكتيك خاصة بالفلسفة، وإدراكا لمجمل الصعوبات النظرية والعملية لهذه الديداكتيك- قد أقروا كل حسب وجهة نظره، بأن ما هو ممكن فقط حين يتعلق الأمر بمادة "الفلسفة" هو فقط "ديداكتيك تعلم التفلسفApprendre à philosopher وليس "ديداكتيك للفلسفة". وهذا الأمر ليس مجرد تغيير للإسم، بل إدراكا منهم، كما أدرك ذلك الفيلسوف الألماني كانط، بأن " ليس هناك من فلسفة يمكن تعلمها، وأنه لا يبقى سوى الأخذ في التفلسف"(6).
إن إدراك هؤلاء لهذه الحقيقة، قد أدى بهم إلى الاقتناع موازاة مع كل ما سبق، بضرورة تحويل كل التساؤلات المثارة سلفا حول الفلسفة ككل، إلى تساؤلات حول " فعل التفلسف". وهذه العملية نفسها هي التي سمحت خلال العقود الثلاثة الماضية على الأقل في بعض البلدان – وخاصة في فرنسا- بضمان موقع خاص ومتميز إلى حد كبير، للفلسفة ضمن الهم الديداكتيكي بصفة عامة. موقع يفيد باختصار بأن "المادة" التي يجب الانطلاق منها لتعليم "فعل التفلسف" للناشئة، هي "النصوص الفلسفية" للفلاسفة، وبأن الغاية القصوى من الاشتغال على هذه النصوص: في مرحلة أولى، حين لا يزال الجميع يتحدث عن "التدريس بالأهداف" هي اكساب التلميذ القدرة على التفلسف من خلال المثلث المشهور: المفهمة، الأشكلة، والمحاجة، وفي مرحلة ثانية: حين أصبح الكل يتحدث عن "التدريس بالكفايات"، هي: تعليم التلميذ التفلسف من خلال اكسابه كفايات نوعية، تواصلية، ذهنية... عبر سيرورات وخطوات واعية منهجية لا تخل بالروح الفلسفية للمادة، رغم كل الإكراهات الرسمية المتمثلة في نوعية البرامج، والتوجيهات... وغير ها.

ــ الإحالات المرجعية:

1- M.TOZZI (ET AUTRES) : « Apprendre à philosopher… » Hachette éducation. 1992. p. 23.
2- Dictionnaire de la langue Française : Petit Robert.
3- L.CORNU et A.VERONIOUX : « La didactique en questions » H.éducation.1992.P :10
4- Ibid. p 14.
5- Voir la bibliographie.
6- E. KANT : « Critique de la raison pure ». PUF. Paris. 5 édition. P. 561.
ــ بـيبـلـيـوغـرافــيــــا:

- M. TOZZI . P. BARANGER, M. BENOIT, C. VINCET: « Apprendre à philosopher dans les lycées d’aujourd’hui »H.éduction.1992.
- P. MERIEU : « Philosophie et didactique » Préface à « Apprendre à philosopher » ci-dessus.
- L. CORNU, A. VERGNIOUX : « La didactique en questions » H. éduction .1992.
- M. TOZZI : Petit Grossaire in « Enseigner la philosophie aujourd’hui » CRAP- Cahiers pédagogiques. Séminaire 89/90 Université de Montpellier III.
- M. TOZZI : Introduction à la problématique d’une didactique de l’apprentissage du philosopher- in : « Didactique de l’apprentissage du philosopher » Université de Montpellier III. Décembre 1992.
- P. MERIEU : « Apprendre…oui, mais comment ? » Paris ESF ; 1992. 9ème id.
- (Groupe) : « Education et philosophie » PUF. Paris.1993

 
استطلاع
 


هل تثق في مشروع اصلاح التعليم المغربي؟
نعم
لا

(Afficher le résultat)


لتكن لديك الشجاعة على استخدام عقلك
 
فضاء للتفكير العقلاني
في قضايا التربية و التكوين
فكرة اليوم
 
إننا لا نرى في العالم سوى ما
نحتاج لرؤيته فيه
 

تاريخ اصدار الموقع: 23- 02- 2012
 
موقع يجدد كل يوم حسب أبوابه
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement