الواجب الأخلاقي
تحيل كلمة الواجب في دلالتها اللغوية على معنى الإكراه و الضرورة؛ فما يكون واجبا، يكون فرضا على المرء الالتزام به و الخضوع له، حتى و لو كانت الرغبة تمانع في ذلك.
على أساس هذا المعنى يكون الواجب قاعدة للأفعال الأخلاقية و القانونية على سواء؛
فالحق باعتباره قاعدة قانونية يقترن بواجب أو إلزام، لأننا أمام القانون لا نكون أحرارا، بل مرغمين على تمثل الحقوق كواجبات يجب الامتثال لها كما أن القواعد الأخلاقية في عمقها ليس إلا ضرورات عملية، أو قواعد عامة للسلوك تحدد الخير و الشر؛ و تفرض ذاتها على الوعي و السلوك الفردي كإلزامات عليا.
انطلاقا من التحديدات السابقة، ينطوي مفهوم الواجب على المفارقات التالية:
هل الواجب الأخلاقي إكراه عقلي منزه عن كل رغبة و منفعة، أم أن الوجب هو في العمق قاعدة أخلاقية تتضمن مصلحة، تم تجريدها و تقديسها بشكل متعالي ؟.
I الواجب و الإكراه:
يمكن تعريف الإكراه بذلك الأثر القوي الذي يتحمله الوعي أو الإرادة الفردية من جراء ضرورة؛ سواء خارجية أو داخلية، تفرض التخلي الكلي أو الجزئي على الحرية أو الرغبة الذاتية؛ و بشكل عام يمكن القول: أن الإكراه يحضر حيثما كانت الحرية محدودة، و حيثما عجز الإنسان عن تحقيق رغباته حتى و لو كان يملك القدرة على ذلك.
و معنى أن نبحث عن علاقة الواجب بالإكراه؛ هو أن نضع في البداية فرضية أن الإكراه يدخل في طبيعة الواجب.
لو تصورنا وجود قاعدة أخلاقية يغيب عنها الإكراه، فإنها لن تستحق أن تكون واجبا أخلاقيا؛ و النتيجة أن الواجب هو إكراه أخلاقي.
لكن الإكراه الذي يتضمنه الواجب يطرح المفارقة التالية:
هل الإكراه الذي يحمله الواجب في جوفه، ينبع من وعي أخلاقي ذاتي (إرادة حرة)؛ أم هذا الإكراه يكون نتيجة خوف من نتائج وخيمة قد تترتب عن عدم التزامنا بالواجب الأخلاقي و في هذه الحالة يكون إكراه الواجب نوعا من العنف الذي يمارس على الإرادة الذاتية ؟
أم أن الواجب الأخلاقي يفرض ذاته علينا لأننا كائنات نفعية تفكر في مصلحتها، و يعدها الواجب الأخلاقي بذلك، بمعنى أن التزامنا بالواجب ينبع من المنفعة ؟
يمكن الجواب على هذه التساؤلات من خلال المواقف الفلسفية التالية:
j الواجب كأمر أخلاقي مطلق (إيمانويل كانط):
في كتاب نقد العقل العملي، يتحدث كانط على الغاية باعتبارها جوهر الفعل الإنساني، فالإنسان على خلاف الحيوانات الأخرى يتميز بقدرة عقلية على تحديد غايات لحياته و لأفعاله، و يقدر بالتالي على الوعي بالوسائل التي تمكنه من بلوغها. و إن كان الوعي بالغايات يجعل الكائن البشري يسمو فوق الكائنا الأخرى، إلا أن الغايات تفرض عليه أن يتصرف بمنطق نفعي و أن يغير في قواعد سلوكاته كلما تغيرت غاياته و أهدافه؛ و يمكن أن تتعارض الغايات في الزمان، كما يمكنها أن تتعارض بين البشر مما يحول الحياة الإنسانية إلى حلبة من الصراع و الاضطراب.
لهذا يجب أن تقترن الغايات الإنسانية بما يمكن تسميته » بالعقل الأخلاقي العملي « ؛ و يشمل هذا العقل الواجبات الأخلاقية العليا أو الكونية، باعتبارها قواعد مطلقة و قطعية.
فالواجب الأخلاقي القطعيle Devoir Catégorique هو القاعدة السلوكية التي تتميز بالخصائص التالية:
الكونية: يمعنى أنها قاعدة تتجاوز ما هو فردي أو ذاتي، و تكون ذات معنى و صلاحية بالنسبة لكل الكائنات العاقلة؛ إن الواجب الأخلاقي القطعي يفرض ذاته ليس على وعيي فقط و إنما على وعي كل البشر.
الشمولية: أو الإطلاق؛ فالوجب الأخلاقي لا يكون شرطيا، محددا بشروط زمانية أو مكانية أو بمصلحة معينة، بل يكون ذي معنى في كل زمان و مكان، فقول الحقيقة كواجب أخلاقي مطلق لا يصلح لي أنا فقط بل هو واجب صالح لكل الناس، مهما اختلف زمان و مكان عيشهم، و سواء كان ذلك في مصلحة لهم أم مضرة، لأن قول الحقيقة واجب يستقر فوق غاياتنا الفردية بل هو غاية في حد ذاته.
الحرية: ليست الحرية عند كانط انفلاتا من القيود و المحددات، بل الحرية هي فعل ذي معنى و قيمة في إطار قواعد أخلاقية و واجبات؛ أما الحرية المطلقة التي تستقر في خيالنا ليس إلا نزوة أو حلما طائشا، أما على أرض الواقع، فالحرية الحقيقية هي سلوك عقلاني ملتزم بواجبات أخلاقية اتجاه الذات و اتجاه الأخرين.
لذلك فالواجب الأخلاقي يستدعي من الإنسان أن يعي بهذا الواجب باعتباره ضرورة عقلية ذاتية يفترض منه أن يلتزم بها طواعية، و تبعا لاقتناع أو إرادة حرة.
من خلال ما سبق يمكن أن نستنتج أن نظرية الواجب الأخلاقي عند كانط تقوم على تصور الواجب في إطار عقلي مجرد و ذاتي يجعل من الواجب ضرورة مطلقة غير مرتبطة لا بإكراه
خارجي و لا بمصلحة نفعية.
k الواجب الأخلاقي رغبة ذاتية (إيميل دوركهايم):
يستمد تصور دوركهايم مرجعياته النظرية من الأنثربولوجيا من جهة، و من النزعة الوظيفية النفعية من جهة ثانية.
و لا ينظر دوركهايم إلى الواجب من جهة كونه ملزما، أو يمارس علينا إكراها سواء كان داخليا (ميل عقلي) أو إكراها خارجيا (الضغط الاجتماعي)، بل أن الواجب لا بد أن يتضمن ميلا وجدانيا أو ذوقيا؛
إن كان الفرد يمثتل للواجبات الأخلاقية فلأنه يرغب في ذلك و يجد متعة أو لذة في ذلك؛ و الدليل على ذلك أن الفرد حتى و لو كان يدرك عقليا قيمة واجب قول الحقيقة، فإنه قد لا يقول الحقيقة لأنه لا يجد أي متعة في ذلك.
من أين تنبع هذه المتعة الوجدانية في الالتزام بالواجب الأخلاقي؟ يفترض دوركهايم أن الوعي الأخلاقي هو حصيلة » الوعي الجمعي « الذي يمتلكه المجتمع، أو » الأنا العليا « باعتباره مجموع المثل الأخلاقية العليا التي يتبناها مجتمع معين باعتبارها نماذج مثالية لحسن السلوك و الخير و الفضيلة، يتم تمرير هذا الوعي الجمعي للأفراد بفعل التنشئة الاجتماعية أو التربية، لأجل أن يتبناها الأفراد و تتحول إلى جزء من وعيهم الذاتي.
لذلك يربى كل مجتمع أفراده على الإمتثال لهذه الواجبات، و على الشعور بنوع من الرضى و متعة الضمير حينما يمتثلون لها.
إذن فالالتزام بالواجبات الأخلاقية ليس مرده إلى وعي عقلي مجرد، و إنما مرده أيضا لتربية إجتماعية تخلق لدى الفرد ميلا وجدانيا نحو الواجب.
l الواجب الأخلاقي و إرادة الحياة (فردريك نتشه):
تشكل فلسفة نتشه تهديما قويا للفلسفة الأخلاقية الكانطية المجردة، إذ يرى نتشه أن مفهوم الواجب الأخلاقي في مضمونه الكانطي لا معنى له، و يتعارض مع منطق الحياة ذاتها؛ لأن الحياة تفرض على الإنسان أن يسعى إلى تحقيق غاياته ومصالحه؛ و الواجب الأخلاقي يكون بالضرورة مرتبطا بإرادة الإنسان في العيش وفق ما تمليه عليه ظروفه و مصالحه.
و ليس هناك واجبات أخلاقية عليا عقلية مطلقة و كونية و مجردة عن المصالح، بل أن هذا النوع من الواجبات يجعل شعبا من الشعوب يغرق في أوهام مثالية، و يهمل مصالحه و غاياته الواقعية، مما يعرضه للإفلاس و الدمار.
إن الواجب الأخلاقي عند نتشه هو مجموع الضرورات التي تفرضها المصالح و الغايات المرتبطة بالعيش.
من هذا المنظور يكون الواجب الأخلاقي بالنسبة لنتشه أمرا شرطيا و نفعيا.
II الواجب و الوعي الأخلاقي:
يقصد بالوعي الأخلاقي مجموع التمثلات و الإدراكات التي يفهم من خلالها الفرد الواجبات الأخلاقية؛ لكن الوعي الأخلاقي يطرح مفارقة أساسية:
هل يمكن اعتبار الوعي الأخلاقي ملكة عقلية ذاتية و قبلية، بمعنى مستقلة عن أي تربية أو شروط اجتماعية، أم أن هذا الوعي هو حصيلة اكتساب اجتماعي؟
إذا كان كانط يبني الوعي الأخلاقي انطلاقا من الذات الفردية، باعتبار أن الواجب الأخلاقي هو أمر يستمد معناه و قيمته انطلاقا من العقل الذاتي و الإرادة الحرة،
نلاحظ أن التصور الذاتي القبلي للوعي الأخلاقي سيتعرض لانتقادات عديدة في الفلسفة المعاصرة، خصوصا و أن جل الفلسفات الأخلاقية للقرن العشرين ستدمج في صلبها المعطيات السيكولوجية و الانتربولوجيا.
من الزاوية السيكولوجية شكلت نظرية التحليل النفسي منعطفا حاسما في النظرية الأخلاقية الجديدة؛ إذ أن سيجموند فرويد سيجعل من الوعي الأخلاقي (الضمير) مكونا للجهاز النفسي الثلاثي (الهو، الأنا، الأنا الأعلى).
يشكل الأنا الأعلى مصدرا للشعور الأخلاقي؛ و يتشكل الأنا الأعلى بفعل التعديل الذي يطرأ على الأنا نتيجة خضوعه للتربية الاجتماعية؛ فما نسميه الضمير الأخلاقي ليس في الواقع إلا مجموع الأثار النفسية التي يحركها الأنا الأعلى؛ و ليس الأنا الأعلى سوى مجموع المثل و القيم و القواعد الجمعية التي تقدسها الجماعة و تجعلها أطرا مرجعية و مطلقة للخير و الشر، يتم تمريرها إلى الفرد عن طريق التنشئة الاجتماعية، إلى حد أنها تصبح جزءا أساسيا من شخصياتهم و نظامهم النفسي.
أما بالنسبة لهناز كينتشتاينر، فتطور فلسفة الأخلاق يكشف عن مرحلتين أساسيتين في تطور الوعي الأخلاقي:
المرحلة القديمة:
التي كانت تنظر للوعي الأخلاقي باعتباره امتثالا لإرادة فوقية تتجاوز الإرادة الفردية، و هذا التصور يفترض إما النظر إلى الواجب الأخلاقي كأمر إلهي يجب الإمتثال له، أو أمر جماعي، يفرضه المجتمع على الفرد، و يكرهه على الخضوع للإرادة الجماعية.
و في جميع الحالات يكون الوعي الأخلاقي هو استجابة لإكراه قوى خارجية إما مقدسة و إلهية أو اجتماعية.
المرحلة الحديثة:
التي ارتبطت بفلسفة الأنوار التي أعادت الاعتبار للذات الفردية إزاء القوى المقدسة و الإلهية؛ يمثل كانط هذه المرحلة، إذ ستميل الفلسفة الأخلاقية إلى تأسيس الواجب الأخلاقي على الإرادة و الحرية الذاتية. إن هذه التحولات التي طبعت النظرية الأخلاقية تكشف في نظر كينتشتاينز الطبيعة التاريخية للوعي الأخلاقي، باعتباره شكلا متطورا من الفهم و التمثل للواجبات الأخلاقية، في انفتاح على الشروط الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية للمعيش التاريخي.
و من هنا يمكن الجزم بأن الطابع المطلق و اللاتاريخي الذي أضفاه كانط على الوعي الأخلاقي بدأ يتراجع في الوقت الراهن لصالح رؤية نسبية و تاريخية لواقع الأخلاقي.
III الواجب و المجتمع:
إن الالتزام بالواجب الأخلاقي يتم في أرض الواقع الاجتماعي، مادام الإنسان يمارس أفعاله في إطار اجتماعي تكون فيه أفعاله متقبلة من طرف آخرين، و تكون قيمتها تبعا لنتائجها على الأخرين.
لذلك يكون طرح الواجب الأخلاقي أسيرا لتوثر نظري بين الطابع المجرد والذاتي من جهة و الطابع الواقعي و الاجتماعي من جهة أخرى.
تتجه الفلسفة الأخلاقية المعاصرة نحو خلق نوع من التواطؤ و الانسجام بين النزعة العقلية الذاتية (الكانطية) و النزعة الاجتماعية و النفسية.
في هذا الإطار تبرز فلسفة يورغن هابرماس كتطوير للكانطية الجديدة لكن من منظور اجتماعي.
يتحدث هابرماس عن العقل » العمومي الأخلاقي «، و هو شكل من استعمال العقل لكن بشكل مشترك بين الناس الذين يعيشون في زمان و مكان محددين، وفق مصالح مشتركة. هذا العقل العمومي؛ يفرض على الأفراد أن يضعوا جملة من القواعد المشتركة التي تفرض عليهم تحقيق قدر من التواصل الحر فيما بينهم بالقدر الذي يضمن لهم مصالحهم الخاصة في إطار المصلحة العامة و يقبل هذا العقل العمومي أن يخضع لتعديلات وتطورات مستمرة كلما اقتضت المصلحة ذلك.
و في نفس الإطار تنظر حنا أرندت للواجب الأخلاقي كنوع من التعاقد الاجتماعي المحكوم بشروط تاريخية و اجتماعية محددة؛
فليس هناك وعيا أخلاقيا مجردا ومطلقا لأن الأفراد يكيفون وعيهم للواجبات الأخلاقية تبعا لمصالحهم و معطيات الحياة المعيشة.
من هذا المنظور يكون الوعي الأخلاقي هو شكل الوعي الذي يوفره المجتمع في لحظة تاريخية محددة، و يكون الواجب الأخلاقي، مجموع القواعد التي يضعها المجتمع لخدمة مصالحه في سياق تاريخي محدد.
خاتمة
يجسد الواجب الأخلاقي بشكل عملي الطابع المقدس الذي يضفيه الكائن البشري على بعض القواعد العليا باعتبارها قوانين كونية و مطلقة اقرب الى القوانين الطبيعية، و معنى هذا ان المجال الأخلاقي الذي يشكل حقل الإرادة الإنسانية يجب أن يخضع بدوره لمبدأ الضرورة على شاكلة الضرورة الفيزيائية، و يكشف هذا النزوع عن الغاية الأساسية للبشر في تنظيم اجتماعي محكم على أساس تنظيم أخلاقي عقلي . لكن النظرة الفلسفية المعاصرة للواجب نزعت عنه الطابع المتعالي و المقدس و أسكنته في دائرة التفاعلات التاريخية و الاجتماعية المحكومة بنسبية مصدرها الاختلاف في المصالح و الإيديولوجيات، فلم يعد الواجب ذلك الضمير الذي قال عنه كانط: شيئان يثيران في نفسي الإعجاب الجليل: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي و الشعور بالواجب الاخلاقي في عقلي".
|