السعادة
السعادة فضيلة، أو السعادة خير، هذا ما يتردد غالبا في تاريخ الفلسفة و في الوعي العامي، لأن السعادة سعي مطلوب من جهة الإنسان بحكم فطرته على كل ما فيه منفعة و خير له.
نلاحظ أن الناس لا يختلفون من حيث الشعور بالسعادة فهي بالنسبة لكل البشر حال من الانسجام و النغم داخل النفس بعيدا عن أي ألم جسدي أو نفسي، يحقق متعة داخلية و شعورا بلذة؛ لكن الاختلاف يطال مصدر السعادة و طرق بلوغها.
في الوقت الذي نعثر فيه على بعض المذاهب الفلسفية التي تؤسس السعادة على فضائل الروح و العقل بعيدا عن الجسد؛ نجد في الجهة الأخرى مذاهب تعتبر اللذة الجسدية المدخل الأول و الأساسي للسعادة.
على هذا الأساس يمكن القول أن تصور السعادة يحتكم إلى تصور النفس، بمعنى أن الفهم الذي تشكله فلسفة ما عن النفس يتحكم بشكل جوهري في فهمها للسعادة.
إذا كانت النفس جوهرا روحيا مفارقا كانت السعادة مفارقة للذة الجسدية الحسية، و إن كانت النفس قوة من قوى الجسد كانت السعادة مبينة على اللذة الحسية الجسدية.
إذن كيف يمكن مقاربة السعادة بين معطيات الجسد و الروح؟ و ما السبيل لبلوغها ؟.
I. تمثلات السعادة:
يعرض أفلاطون في محاورة "برتاغوراس" أو الفضيلة مذهبه في السعادة، و إذا كان أفلاطون يعدد أنواع المتع أو الخيرات التي يطلبها الناس في الحياة حسب تعدد طبائعهم، منهم من يرى الخير في متع الجسد من مأكل و مشرب، و هي متع أقرب إلى متع الحيوانات؛ و منهم من يطلب المجد و الشرف من جاه و سلطة، و هي متع أهل السياسة و الثروة؛
و أخيرا متع أهل الفضيلة المرتبطة بالعقل و التأمل؛ و المتعة الأخيرة أكثر ارتباطا بالروح و الأكثر تجريدا و انفصالا عن الجسد.
يميل أفلاطون إلى ربط السعادة الحقة و المطلقة بالخير الأسمى، أي إدراك الحقيقة العليا بواسطة التأمل العقلي، و هذه اللذة لا يشعر بها و لا يطلبها إلا أهل الفلسفة أو من كانت طبيعتهم تؤهلهم لنيل الفضائل الروحية العليا.
في مقابل التصور الأفلاطوني نجد التصور السوفسطائي الذي كان يتوخى السعادة في طلب المتع الدنيا بكل أنواعها، لأن السفسطائيين أنكروا وجود الحقيقة و الروح.
ينتصر تصور أرسطو لفلسفة أستاذه أفلاطون في مواجهة الرؤية الحسية السفسطائية؛ ويقسم أرسطو السعادة على ثلاثة أنواع:
سعادة جسدية: ترتبط بالمتع الحسية.
سعادة مدنية: (سياسية) ترتبط بفضائل الحياة الاجتماعية من جاه و ثروة و سلطة.
سعادة الفضيلة: التي تقوم على التأمل العقلي ( سعادة الحقيقة).
السعادة الأولى و الثانية زائلة و تخلف بزوالها ألما؛ أما السعادة الأخيرة فهي ثابتة و شريفة و تطلب لذاتها و ليس لأي شيء آخر.
تصور السعادة في الفلسفة الإسلامية كان استعادة للفلسفات الإغريقية إما في صيغتها الأفلاطونية أو الأرسطية؛ و يقسم المسلمون السعادة إلى صنفين:
سعادة البدن و هي مرتبطة بجميع الملذات الحسية؛ بما فيها متع الثروة و الجاه و السلطة و سعادة الروح، يرى إبن مسكويه أن السعادة الحسية ارتبطت في الثراث الإغريقي بالأبيقورية أما السعادة الروحية ارتبطت بفلسفة أفلاطون و أرسطو.
غير أن الفلاسفة المسلمون مالوا إلى الجمع بين السعادتين؛ انطلاقا من التوفيق الذي طلبه القرآن بضرورة طلب المسلم للدنيا و الآخرة؛ فكان السعيد هو من تحقق له خير الدنيا (الجسد) و خير الآخرة (الروح).
II. البحث عن السعادة:
إذا كانت السعادة مطلبا إنسانيا من وراء الحياة، فإن الإشكال يكمن في الطريق الذي يقود إلى السعادة.
يمكن أن نطرح طريقين أساسين كشفهما تاريخ الفلسفة اليونانية على الخصوص: طريق اللذة الحسية مع الفلسفة الابيقورية، و طريق اللذة الروحية مع الفلسفة الرواقية.
تعتبر الابيقورية اللذة خيرا، لأن كل متعة يحققها الإنسان تولد له شعورا باللذة و تبعد عنه الألم و القلق، غير أن اللذة تنقسم إلى أنواع: لذة تأتي بعد الألم، و لذة تخلف وراءها ألم، و لذة ثالثة لا تكون متبوعة بأي ألم؛ و النوع الثالث من اللذات هو الذي يولد في الإنسان متعة دائمة و عميقة.
عموما يمكن القول أن طريق السعادة هو اللذة الدائمة و الخالصة بعيدا عن الألم؛ في حين أن طريق السعادة عند الرواقيين هو طلب اللذات الروحية و العقلية لأنها الطريق الشاق الخاص بأهل العزائم القوية التي تتحمل مكابدة الشهوة و الملذات الحسية الجسدية الفانية.
لذلك فالسعادة تقبل أن تنقسم في نظر يسنيكا إلى سعادتين:
سعادة العوام: و تكمن في الملذات الحسية و الاجتماعية الرائجة؛ و هذا الصنف ليست سعادة إلا باشتراك الأكثر.
أما السعادة الحقيقية: فهي فضيلة خاصة بأهل العقل و النفوس القوية القادرة على التأمل و التفكير؛ و السعادة الحقيقية تقتضي العزلة عن عامة الناس و الأفكار الرائجة بين الرعاع، و ضرورة طلب حياة تقوم على الخلوة و التأمل و العودة إلى الذات.
III) السعادة و الواجب:
إذا كانت السعادة متعة و لذة هل يحق للإنسان أن يطلب المتع دون الخضوع لأي قانون أخلاقي؟ بمعنى هل كل المتع متاحة للإنسان مهما كانت الطرق التي تؤدي إليها؟
يرى إبيكتيت أن للسعادة أخلاقا، أي أن بلوغ السعادة الحقيقية يرتبط بشكل جوهري بمعرفة أو فهم لخطة الحياة، تقوم على الانسجام مع قوانين الطبيعة؛ فالإنسان السعيد هو من يجعل إرادته متوافقة مع قوانين الطبيعة، و يرضى بالقدر.
إذا كان إبيكتيت يتصور القانون الأخلاقي للسعادة في احترام مبادئ الطبيعة، فإن كانط يرى أن طريق السعادة هو الالتزام بالقانون الأخلاقي القائم على الواجب العقلي.
فإن كانت الغريزة أو الطبيعة تدفع كل واحد منا إلى تصور المتعة في الإرادة الخاصة و الأنانية، فإن هذه المتعة لا تكون إلا على حساب الأخرين، و تتعارض مع جوهر الحرية كالتزام بالقواعد الأخلاقية.
و إذا كان الواجب الأخلاقي القطعي يقتضي أن تلتزم به دون أن تكون لنا مصلحة فيه، فإن الإلتزام بهذا الواجب يؤدي في النهاية إلى سعادة تكمن في رضا الضمير و التوافق مع الروح الأخلاقية، فواجب قول الحقيقة يولد في النفس سعادة روحية حتى و لو كانت هذه الحقيقة تخلف ألما أو ضررا للإنسان على المستوى العملي.
خاتمة:
السعادة مطلب إنساني، لكنه عسير جدا نظرا للطابع النسبي للسعادة في ارتباطها بتعارض قوى الإنسان الجسدية و الروحية؛ و مادام الإنسان يعيش توثرا بين كونه كائنا حيوانا و كائنا ملاكا فإن السعادة المطلقة تظل بعيدة المنال.
|