بعد أن تعرفنا على قيمة الوعي بهوية الذات من منظور الفلسفة الحديثة، أي الفلسفات التي سادت ابتداء من القرن السابع ، و هي الفلسفة الديكارتية، و الفلسفة التجريبية الانجليزية، و الفلسفة الكانطية الالمانية التي كانت تسعى الي ايجاد ارضية مشتركة بين ديكارت و دافيد هيوم." نود في هذا الجزء الرابع أن نعرض بنوع من التفصيل لبعض المواقف المعاصرة
خصوصا موقف كل من "ارتر شوبنهاور" و "هنري يرجسون".و إن كان من الصعب تصنيفها في مدارس فلسفية واضحة.
بالنسبو لبرجسون هو فيلسوف فرنس عاش في بداية القرن العشرين، و اطلع على باقي الفلسفات السابقة، مع اطلاع جيد على نتائج العلوم النفسية، مما جعل أغلب تصوراته قريبة من الفلسفة و العلوم الانسانية و الايمان الروحي.الوعي بالنسبة لبرجسون هو ما يحدد الانسان ككائن واع، لكن كيف يصل الانسان الى الوعي بذاته؟ يرى برجسون أن الوعي يتشكل من خبرات و تجارب معيشة و مباشرة في الزمان، يعيشها كل واحد منا في اليومي الذي نغرق فيه و يكون تلك الحياة التي نحياها في كل لحظة.فالخبرة التي تتشكل لدينا نحصلها في الذاكرة بما هي ذلك السجل الذي يستوعب كل نعيشه.غير أن ارسطو يميز في الانسان عن الحيوان بنوعين من الذاكرة،الحيوان لا يتمتع بالشعور بما هو ارادة في التذكر و ربط بين الاحداث و الذكريات، فالحيوانات لا تتذكر بارادتها لأحداث بعينها، أما الانسان فبامكانه أن يتذكر أي حدث معين و في أي وقت، كما يمكنه أن يربط بين الذكريات ليصنع منها سيرة أو قصة أو عملا فنيا.
يعرف برجسون الذاكرة بأنها الحاضر الراهن و قد مر الى الماضي،فأنا لا اتذكر الحاضر لأنه هو ما أنا بصدد عيشه، لكن عندما يمر الزمن ينسحب الحاضر الى الماضي و يصبح عبارة عن ذكريات يمكن استحضارها.فما أتذكره سوى الماضي، و استدعيه من ماضيته نحو الحاضر كما لوكان الأمر أشبه ببعث .لكن التذكر باعتباره شعورا أو نشاطا من انشطة االمخيلة يقوم أساسا على الربط بين الماضي و الحاضر و المستقبل.كيف ذلك؟
عندما أتذكر أاستدعي ما هو ماض لأحضره الى الزمن المباشر لحياة و هو الحاضر ، لأجل المستقبل،و هنا تكون زمنية الحياة متصلة و متدفقة آتية من الماضي و تعبر الحاضر نحو المستقبل. من هنا نخلص الى أن الوعي عند برجسون هو شعور متدفق عبر الديمومة ، أو الزمن المتصل للحياة.فأنا أدرك أنني ذلك الذي كان في الماضي طفلا، و من هو الآن في الحاضر ، و من سيكون في المستقبل.
لكن من أين استمد هذه القدرة على الشعور التي تسمى الوعي بالذات؟ بالنسبة لبرجسون أن الوعي هو نشاط حدسي مباشر ، بمعنى ادراك لا يعتمد على أي وساطة سواء كانت الحواس أو التفكير، فأنا لا افكر ان كنت أنا هو أنا الآن أو ماكنته سابقا،بل هناك شعور أجده في وعيي يقول لي أنني أنا هو أنا، و لا يقول لنا برجسون هل هذا الشعور الحدسي المباشر هل هو فطري أم غير ذلك.و لكن كل ما يقوله هو أنه بدون ذاكرة لا يمكن لهذا الحدس أن يتحقق.و هذا ما يقترب من القول بأنه مكتسب بحكم أن الذاكرة هي حصيلة خبرات و أحداث، لكن برجسون لا يصرح بذلك