الحريــة
يمكن تعريف الحرية بإطلاق المعنى هي تلك القدرة على الفعل و التصرف دون الخضوع لإكراه من قوة خارجية.
يطرح هذا المعنى الحرية على مجالين أساسيين: مجال الحركة الطبيعية، و مجال الحركة الإنسانية.
انصب النقاش في تاريخ الفلسفة لإشكال الحرية في هاذين المجالين: هل من الممكن تصور نظام الطبيعة خارج قانون الضرورة؛ و بالتالي القول أن الطبيعة هي مجموع الحركات الخاضعة للإرادة الإلهية الحرة؟ أم أن الطبيعة نظام يتحرك وفق قوانين و ضرورات محددة؟. على المستوى الإنساني انصب النقاش على معرفة مدى حرية الإنسان في فعله، هل الإنسان حر في إرادته و أفعاله تبعا لرغبته و مشيئته؟ أم أن الكائن البشري هو جزء من نظام الطبيعة يتصرف وفق قوانين قبلية و محددة ؟.
إن ارتباط المجال الطبيعي و المجال البشري يتحكم بشكل وثيق في تحديد الموقف النظري من الحرية الإنسانية؛ بمعنى إن كان الإنسان جزء من الطبيعة و امتدادا لها فإن ما يسرى على ظواهر الطبيعة يسرى على الإنسان، والعكس صحيح، إذا ما تم النظر للإنسان ككائن متميز و يسموا عن الكائنات الأخرى، لأنه عاقل في جوهره، فإن الحرية ستكون خاصية لأفعاله.
لكن حتى في الحالة التي نصادف فيها بعض المواقف الفلسفية التي تنظر للحرية الإنسانية هل هذه الحرية تكون مطلقة أو نسبية ؟
I. الحرية و الحتمية:
المقصود بالحتمية، الضرورة بين الظواهر التي تفرض خضوع بعضها للبعض، بحيث أن معرفة الأسباب تقود إلى معرفة النتائج.
ارتبط القول بالحتمية بالعلم الطبيعي، منذ أرسطو إلى يومنا هذا، مادام موضوع العلم الطبيعي هو مجموع الظواهر الطبيعية سواء الجامدة أو الحية، فإن نظام الطبيعة يخضع لسلسلة من الحتميات التي يمكن معرفتها و صياغتها على شكل قوانين ثابتة و كونية.
من هذا المنظور يرى كارل بوبر أن تصور الطبيعة يتحكم في تصور الإنسان بدرجة أساسية؛ فإن وضعنا الإنسان كظاهرة من الظواهر داخل نظام الطبيعة، يعني هذا أن الإنسان خاضع بدروه لسلسلة من المحددات التي تتحكم في أفعاله؛ و هي ثلاثة محددات:
إكراهات العالم الطبيعي، و محددات عالم الوجدانات و العواطف، و قوانين الفكر و المنطق.
داخل هذا المثلث، يتوهم الإنسان حرية خاصة به، و يمكنه أن يكتشف طريقة خاصة به، ليوفق بين هذه المعطيات؛ فالفنان مثلا؛ يظهر قدرا كبير من الحرية و الإرادة في عمله بين إنجاز هذا العمل أو ذلك؛ بهذه الطريقة أو تلك، الشيء الذي يرسخ في أذهاننا و في وعي الفنان ذاته أن فعله حر.
غير أن التحليل العميق الذي يمارس النقد الفني يكشف أثر العوامل الاجتماعية و البيئية في عمل الفنان، كما أن التحليل النفسي يظهر لنا أثر العوامل المكبوثة في اللاشعور، و من جهة ثالثة أن الأفكار التي يسعى الفنان تجسيدها تنتمي إلى عالم الفكر الذي يخضع بدوره لقواعد ثابثة تتمثل في المنطق و المقولات القبلية، فإن كانت هناك إمكانية للإعتراف بحرية الإنسان، لاتكون هذه الحرية تتعدى اختيار بين معطيات محددة داخل إطار محدود.
سبق لسبينوزا أن أتبت في كتاب الأخلاق أن نظام الطبيعة هو نسق من الضرورات المترابطة لأن القول بالحرية يقود إلى القول بالجواز، الشيء الذي يحول الطبيعة إلى مجال تهيمن عليه الخرافات و القوى الأسطورية، مما ينقص من سمو القدرة الإلهية على خلق نظام محكوم بقوانين.
لذلك فالطبيعة هي تجسيد لإرادة الله، أو أن إرادة الله هي إرادة الطبيعة ذاتها من خلال القوانين التي تسيرها وفق حتميات ثابثة و لا يخرج الإنسان عن هذا النظام الطبيعي.
لذلك يعتقد سبينوزا أن القول بالحرية الإنسانية هو مجرد وهم ناتج من جهة أولى عن خيالنا و حواسنا و من جهة ثانية عن جهلنا بالأسباب التي تقف خلف أفعالنا.
لو امتلكنا معرفة كافية و حقيقية بالظواهر و أفعالنا لأكتشفنا أننا نخضع لضرورات طبيعية محكمة في دقتها.
داخل العلوم الإنسانية، شكل التحليل النفسي مع سيجموند فرويد القاعدة النظرية لهدم الحرية الإنسانية.
يفترض فرويد أن السلوكات الإنسانية خاضعة لقوتين: قوة الشعور و قوة اللاشعور .
يمثل الشعور قدرة الأنا على الوعي و التصرف غير أن الأنا لا يتصرف بشكل حر بل يخضع لتأثيرات خارجية عنه، وهي تأثير عوامل الزمان و المكان (العالم الخارجي)، تم تأثيرات الهو( نظام الغرائز و الأهواء)، وأخيرا تأثيرات الأنا الأعلى (نظام القيم الأخلاقية و الاجتماعية).
فحرية الأنا تظل محدودة في نطاق البحث عن الطرق المناسبة للتوفيق بين هذه الإكراهات.
أما اللاشعور فهو ذلك النطاق المجهول الذي يحتوي على صدمات جنسية مكبوثة، لكن اللاشعور يظل يؤثر بشكل حاسم و خفي في قرارات الشعور، ومعنى هذا أن الحياة النفسية تظل خاضعة لحتميات أساسية:
حتمية الطفولة: فالشخصية الأساسية للفرد تتحدد في مرحلة طفولته تبعا لنوع التربية، و طبيعة الصدمات التي تعرض لها.
حتمية العوامل الجنسية اللاشعورية، أي مجموع المكبوتات المترسبة في اللاشعور التي تتحكم في أفعالنا الشعورية؛ لذلك يعتقد فرويد أن الإحساس بالحرية هو مجرد وهم؛ و أن الأنا ليس سيدا بل هو عبد اللاشعور.
من داخل الأنتربولوجيا وعلم الاجتماع، سادت في نهاية القرن العشرين نزعة وضعية علمية، تنظر للظواهر الاجتماعية كامتداد للظواهر الطبيعية.
على هذا الأساس نظر إميل دوركهايم للمجتمع كسلسلة من الوقائع الخاضعة لقوانين و إكراهات محددة.
و نفس القناعة نلمسها داخل علم الاجتماع الماركسي الذي يتصور المجتمع كنظام حتمي يقوم على تفاعلات ضرورية بين البنيات الاقتصادية (البنية التحتية) و البنيات الفوقية (الثفافية، و الأخلاقية، و السياسية، و الإيديولوجية)؛ و النتيجة أن التاريخ البشري هو حركة من الأفعال الخاضعة لقوانين التناقض الجدلي والمادي.
II) الحرية و الإرادة:
الإرادة هي قدرة الكائن على الفعل انطلاقا من ذاته؛ لكن الإرادة تطرح مفارقة عميقة:
هل يجب تصور الإرادة كقوة مطلقة على الفعل حسب الرغبة الذاتية ؟ أم ا، الإرادة ليست سوى قدرة محدودة في الاختيار بين معطيات و إمكانيات محددة سلفا ؟.
في الفكر الإسلامي، سبق للأشاعرة أن قالوا بنظرية الكسب للتوفيق بين الإرادة و الحتمية، بمعنى أن الله قدر على الإنسان الخير والشر، و مكنه من قدر كسب أحدهما، أي الاختيار بينهما و تحمل مسؤولية اختياره.
و نفس الموقف نجده في الفلسفة المسيحية في القرون الوسطى، حتى أن فلسفة الحداثة مع ديكارت لم تستطع الخروج عن هذه الرؤية.
في كتابه مبادئ الفلسفة يتصور ديكارت أن الطبيعة كتاب كتب بلغة الرياضيات و الهندسة، و ليس هناك إمكانية لتصور الاعتباطية؛ غير أن الذات الإنسانية بحكم قدرتها على الوعي و التأمل تكتشف هذا النظام الكوني في ذاتها، فليس هناك إمكانية لتصور الإنسان ككائن عبثي لا يخضع لقوانين الطبيعة؛ لكن العقل عند ديكارت يظل مجرد قدرة على التمييز بين الخير و الشر، و بالتالي قوة تسمح للإنسان بالاختيار بين الأمور من خلال ترجيح أحدهما تبعا لحساب العواقب و القوانين الأخلاقية.
طور كانط مفهومي الحرية و الإرادة في أبعادهما الأخلاقية؛ فالحرية المطلقة هي مجرد وهم من أوهام العقل الخالص، فلا حرية ممكنة خارج القوانين الأخلاقية، كما أن الإرادة هي تلك القدرة التي يتمتع بها الكائن العاقل التي تجعله يخضع لضرورة العقل بمعنى أن الإرادة هي خضوع لضرورة داخلية يمثلها الواجب الأخلاقي العقلي، دون الخضوع لضرورة خارجية فالإرادة من هذا المنظور ليست مطلقة على شكل هوى أو نزوة طائشة بل هي التزام بنداء الواجب والقانون الأخلاقي الذي يسكن في عمق العقل البشري.
بمقابل هذه النزعات الأخلاقية لفلسفة التنوير التي حاولت التوفيق بين الحرية الإنسانية والضرورة الطبيعية، يتجه جون بول سارتر إلى تصور الإنسان ككائن حر بشكل مطلق، و في الحقيقة أن فلسفة سارتر كانت تعبيرا عن توجه سياسي واجتماعي ثوري تبلور في القرن العشرين مع أحداث ماي 1968 و حركة التمرد الجزائرية.
تضع هذه النزعة الإنسان كمسؤول عن اختياراته ووجوده.
فالفلسفة الوجودية تعتمد مقولة الحرية في عمق ماهية الإنسان كمشروع منفتح على كل الإمكانيات، من خلال مبدأ التجاوز الذي يجعله يتحرر من إكراهات الماضي و الحاضر، لبناء المستقبل تبعا لغاياته الخاصة بشكل حر.
III). الحرية والقانون:
يقصد بالقانون مجموع القواعد الموضوعة لأجل تنظيم الحياة الاجتماعية في بعدها الأخلاقي و السياسي و القانوني،
يسكن في عمق القانون إكراه و ضرورة تفرض على الفرد الالتزام بالقواعد، على خلفية هذا التحديد، يكون القانون أرضية سياسية للحديث عن الحرية في استعمالاتها الواقعية داخل الفضاء العمومي – المجتمعي، هل الإنسان حر داخل الحياة الاجتماعية في مواجهة الأخرين و مؤسسات الدولة ؟.
يرى فلاسفة السياسية الحديثة، من أمثلا توماس هوبز، و جون جاك روسو، و باروخ سبينوزا أن الحرية المطلقة في صيغتها الطبيعية ليست ذات قيمة حقيقية، لأنها تمثل حالة من الطيش و النزوة العارمة التي تجعل من الإنسان مجرد حيوان متوحش.
فالحرية هي موقف مدني يجعل من الفرد جزء من نظام اجتماعي قائم على قانون متعاقد عليه يحدد الحقوق والواجبات لضمان انسجام بين الأفراد، عبر التنازل عن حرياتهم الطبيعية لسلطة معينة.
يطرح بنجمان كونسطان في نهاية القرن 19 الحرية من خلال الانسجام بين المصلحة الخاصة والمصلحة العام.
إذا كانت الحرية تظهر بشكل مباشر داخل دائرة الحقوق و المصالح التي يتمتع بها الفرد؛ إلا أن هذه المصالح لا يمكن أن تتحقق إلا داخل سعي مستمر للفرد في المساهمة و احترام المصلحة العامة؛ لذلك فالحرية الفردية (الخاصة) لا تجد تعبيرها و تحققها إلا في ضرورة الخضوع للقوانين التي تنظم المصلحة العامة؛ و هذا الشكل هو الذي يمنح الحرية بعدها المدني والوجودي الحقيقي.
في الفلسفة السياسية المعاصرة، تفاجئنا حنا أرندت بتصور سياسي للحرية، تنتقد من خلالها الموقف الميتافزيقي للحرية كقضية عقلية مجردة.
فالحرية ليست مسألة عقل أو مفهوم نظري، بل هي موقف اجتماعي واقعي، داخل شروط معينة في زمان و مكان؛ فالعلاقة التي يقيمها الفرد (المواطن) مع السلطة السياسية هو الذي يحدد واقعيا شكل و درجة حريته.
غير أن الواقع السياسي المعاش يكشف أن الحرية هي مجرد وهم يستبد بالأفراد، بفعل أشكال الهيمنة التي تمارسها الدولة عبر أجهزتها و قواها في التحكم في الفضاء العمومي.
فالحرية كمطلب واقعي تكون هي القدرة التي يمثلكها الفرد في التأثير على حياته اليومية في مواجهة السلطة.
لذلك دافعت حنا أرندت عن الحق في العصيان المدني كحق لممارسة الحرية بشكل واقعي.
خاتمة:
في نقد العقل الخالص يقدم إيمانويل كانط الحرية والحتمية كإحدى نقيضات العقل الميتافزيقي و يتصور أن العقل لا يستطيع نظريا الحسم في هذا الإشكال: هل الإنسان حر أم غير حر ؟
إن الصراع من أجل الحرية هو إرادة الكائن البشري في توسيع هامش إرادته داخل نظام الطبيعة، لكن هذه الإرادة تظل مجرد اختيار محصور داخل إطار لا يخرج عن ضرورات تنتمي لنظام الطبيعة ككل.