كتاب الجمهورية



قراءة في الكتاب السادس من
"الجمهورية"*
عبدالله زرهوني

تقديــــــــم :
يعتبر الكتاب السادس من مؤلف "الجمهورية" مناسبة للحديث عن مسألة يرجع إليها الفضل في شهرة أفلاطون، مقارنة بكل المسائل الأخرى التي عالجها في الكتب السابقة على الأقل، بل هي التي يتخذها الدارسون والمؤرخون لفلسفته، وحتى عامة المثقفين غير المتخصصين للحكم بمثاليته. إنها المسألة التي تفيد ضرورة أن يكون الحكام فلاسفة، أو أن يكون الفلاسفة حكاما.
لكن، إذا كان الأمر هكذا:
• فكيف وصل أفلاطون في مؤلف "الجمهورية" إلى الإقرار بهذا الأمر؟
• ضمن أي إطار جاء الحديث عن ضرورة حكم الفلاسفة للمدينة؟
• وما علاقة هذه المسألة بالإشكال المركزي المطروح في المؤلف ككل؟
• هل هي مسألة انحدرت من ذلك الإشكال بكيفية طبيعية، وتساهم في مقاربته؟ أم أنها مسألة بعيدة عنه كل البعد؟
• وإذا كانت تقدم جوابا عن الإشكال المركزي: فما أهم العناصر النظرية التي تشكل بنية هذه المقاربة ؟
• وكيف استطاع أفلاطون إقرارها ؟
• وهل تحمل جدة وأصالة ما ؟ أم أنها تظل فكرة عادية ومتبذلة؟


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* - ثم الاعتماد في هذه القراءة على نص: "الجمهورية"، ترجمة فؤاد زكرياء، الهيئة المصرية العامة للكتابة.1985.
« La république »,Traduction, Introduction et notes de Jacques cazeaux . livre de poche.1995.و
إن الإجابة عن هذه التساؤلات، هي ما سيشكل الخطوط العريضة لهذه "القراءة" المزمعة للكتاب السادس من مؤلف "الجمهورية". وواضح من خلال التأمل فيها أنها تساؤلات تصب في خمس نقط أساسية، هي على التوالي: موقع الكتاب السادس ضمن ما سبق أن تمت قراءته من الكتب الأولى؛ الإشكال المطروح في الكتاب؛ الأطروحة المقدمة لهذه الأخيرة؛ الحجاج الذي انبنت عليه تلك الأطروحة؛ وقيمة هذه الأخيرة من حيث إيحاءاتها ومفاهيمها.
موقع الكتاب السادس من "الجمهورية" في علاقته بالكتب السابقة.
قبل تحديد هذا الموقع، لابد من تقديم هذه الملاحظات الأولية:
• أولا، إن الحوار الذي بدأ منذ الكتاب الأول، لا يزال هو هو من حيث بعدا الزمان والمكان، مع تغير طفيف من حيث الأشخاص المتحاورون: فالمكان هو"بيرايوس-Le Pirré"، وبالضبط منزل "كيفالوس- Céphalos" السيد التاجر والثري؛ والزمان هو عشية الاحتفال الأول بتأدية فروض الصلاة للإلهة "بنديس- Bendis"؛ أما الشخصيات المتحاورة، فثلاثة أساسية كما كان الأمر تقريبا منذ الكتاب الثالث: "سقراط" كمحاور مركزي مع "جلوكون" و"أديمانتوس".
• ثانيا، أن مسألة حكم المدينة- الدولة، لم تنبثق دفعة واحدة في هذا الكتاب السادس، بل هي لاحت في الأفق مرات عديدة خلال لحظات متعددة من الحوار، إلا أن مسائل أخرى أهم وأكبر منها، حجبتها وغطتها. ولتبيان هذا الأمر يكفي الرجوع إلى هذه اللحظات من الحوار ابتداء من الكتاب الثالث والرابع فالخامس: حيث انبثقت في الكتاب الثالث، خاصة في الفقرتين 412 و414؛ وفي الكتاب الرابع في الفقرات: 428، 431، 432 و440؛ غير أن اللحظة الأساسية تبقى هي نهاية الكتاب الخامس ابتداء من الفقرة 471 حتى نهايته.
ففي هذا الجزء الأخير من الكتاب الخامس، ستثار مسألة حكم المدينة- الدولة بامتياز. وقد جاء الحديث عنها بعد الحديث عن مسألتي شيوعية النساء والأطفال ومسالك المحاربين. فهاتان المسألتان، ومسألة الحكم اعتبرها سقراط بمثابة موجات ثلاثة كان لابد من تجاوزها لكي يطمئن بأن "الدولة التي بناها والتشريعات التي تم سنها، لاتزال في مأمن من الانهيار".
وبصرف النظر عن الصعوبات التي طرحتها أمامه المسألتان الأوليان: شيوعية النساء والأطفال، ومسالك المحاربين... فإن المسألة الثالثة: مسألة من سيتولى رعاية الدولة أو حكمها... قد طرحت: استجابة لالتماس تقدم به أديما نتوس لسقراط، للكف عن مواصلة الكلام عن الدستور وتشريع القواعد، والأخذ في البحث عن السبل الممكنة لجعل كل ما تم تسطيره من هذه القواعد والقوانين يتحقق على أرض الواقع.
هكذا يظهر إذن، بأن الكتاب السادس، ما هو في الحقيقة إلا جزءا من الكتاب الخامس، بل هو الكتاب الوحيد، على الأقل في ما تمت دراسته حتى الآن، الذي تظهر إشكاليته وجزءا من أطروحتها، وحتى ما يستتبعه ذلك من حجاج، ومفاهيم... وقد تمت صياغتها مسبقا. لكن قبل رصد كل هذه الأشياء، لننظر أولا في الإشكال كيف تمت صياغته، وأية علاقة تربطه بالإشكال المركزي للمؤلف ككل.
- الإشكال المطروح:
يمكن القول، ودون تحفظ، بأن الإشكال المطروح في الكتاب السادس قد تمت صياغته في الجزء الأخير من الكتاب الخامس. وبيان ذلك ما جاء في نهاية الفقرة 471 على لسان "غلوكون". فهذا الأخير يرى بأن السؤال الذي أبعده سقراط و تهرب من الإجابة عنه على امتداد عملية التشريع للجنود والنساء والأطفال... يكمن فيما يلي: كيف يمكن النزول بكل هذه التشريعات والقوانين إلى أرض الواقع؟ وهل يمكن لمدينتنا العادلة أن تتحقق؟ وبأية السبل والوسائل سيتم ذلك؟
لكن، إذا كان هذا هو الإشكال المطروح في نهاية الكتاب الخامس، والذي تمت الإجابة عنه في الكتاب السادس: فأية علاقة يمكن أن تكون بينه وبين الإشكالية المركزية لمؤلف "الجمهورية"، التي مفادها: ما هي العدالة؟ وما الظلم؟ وما الإنسان العادل؟ وما الإنسان الظالم؟ وأية حياة يمكن أن يتمتعا بها؟ هل حياة السعادة؟ أم حياة الشقاوة؟
إن تبين هذه العلاقة، قد يكون مستحيلا، على الأقل إذا تم الاكتفاء بالوقوف عند ظاهر الصيغتين. ومن هنا فإن رصدها لن يتم ربما إلا برصد عناصر الأطروحة التي ستقدم عن ذلك الإشكال أولا. ثم النظر فيما إذا كانت تصب في مقاربة هذه الإشكالية المركزية أم لا.
- عناصر الأطروحة:
كيف يمكن النزول بهذه الشريعات والقواعد المنظمة للمدينة- الدولة إلى الواقع؟
إنه الإشكال الذي تردد سقراط في الإجابة عنه مباشرة: أولا، لأنه إشكال صعب يضمر مسألة من أعوص المسائل التي اعترضته في الحوار، إلى جانب شيوعية النساء والأطفال... ألا وهي: طبيعة العلاقة التي يمكن أن تكون بين الفكرة أو الكلمة من جهة وبين الواقع من جهة أخرى، بين ما ينظر له من الأفكار وبين ما يمكن أن يعاش. وثانيا، لأنه إشكال من المتوقع حسب سقراط أن تكون الإجابة عنه صادمة لغرابتها.
لكن، رغم هذا التردد سيؤكد سقراط بأن عدم إمكانية تحقيق كل ما تم تسطيره من القواعد على أرض الواقع، واستحالة تحقق الدولة على الصورة التي رسمت بها في الحوار منذ البداية لا ينقص من قيمة الأفكار والنظرية بصفة عامة: لأن الأفكار والكلمات، مهما تكن، حسبه، لا يمكن أن تتحقق في أي مجال. كما سيؤكد على أنه، رغم هذا الأمر الواقع، يمكن دفع أية دولة إلى أن تكون الحياة فيها قريبة مما هو مقترح حتى الآن، إذ يكفي إجراء تغيير بسيط – وإن لم يكن هينا- في نقطة أو نقطتين أو أكثر...: يتعلق الأمر حسبه بإجراء تغيير على رأس الهرم فيها: أي في طبيعة الحكم، ذلك أن أية دولة لن تستقيم فيها الأمور على النحو الذي تم تحديده: "ما لم يصبح الفلاسفة ملوكا في بلادهم، أو يصبح أولئك الذين تسميهم الآن ملوكا وحكاما، فلاسفة جادين متعمقين، وما لم تتجمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد، وما لم يحدث، من جهة أخرى، أن قانونا صارما يصدر باستبعاد أولئك الذين تؤهلهم مقدرتهم لأحد هذين الأمرين دون الآخر من إدارة شؤون الدولة؛ ما لم يحدث ذلك كله؛ فلن تهدأ (...) حدة الشرور التي تصيب الدولة. بل ولا تلك التي تصيب الجنس البشري بأكمله. وما لم يتحقق ذلـك، فلـن يتسنـى لهـذه الدولـة التـي رسمنـا خطوطهـا العامـة أن تولـد، وأن يكتمـل نموهـا" (473 V) .
لكن، من هو الإنسان الأجدر بهذه التسمية: الفيلسوف؟ من هو الفيلسوف؟ وما نوع الفلاسفة الذين يجب أن يتولوا حكم المدينة-الدولة؟ .
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يؤكد سقراط، في توافق تام، مع ما سبق أن أكده حول دلالة العدالة، باعتبارها التزاما من طرف الكل داخل الدولة للقيام بالوظيفة التي أهلته لها الطبيعة، بأن الناس كلهم لا يمكن أن يكونوا فلاسفة، وبالتالي حكاما: ذلك أن الطبيعة التي تؤهل كل واحد للقيام بوظيفة خاصة داخل الدولة هي نفسها الطبيعة التي فطرت البعض، بحيث يتعلق بالفلسفة ويحكم الدولة، وفطرت البعض الآخر بحيث يعجز عن التفلسف فيطيع من يحكم474 V]].
بعد هذا، يأخذ سقراط في إطار الحوار مع غلوكون، في تحديد سمات الفيلسوف: إذ هو حسبه، ذاك الذي يحب الحكمة، لا من أحد وجوهها فقط، بل بأكملها475 V]]. إنه الميال إلى تذوق المعارف (الاستعداد)، والعكوف على اكتساب العلم (الدراسة)، والنهم إلى الاطلاع (الرغبة) [ 475-V].
غير أن سقراط يستدرك، فيؤكد بأن هذا لا يعني، أن الفلاسفة وحدهم بين كل الناس هم الذين يتصفون بهذه الصفات، بل يعني أن ما يبتغونه من وراء تلك الرغبة في الدراسة والبحث والمعرفة والحكمة، إنما هو: بلوغ ماهيات الأشياء وجواهرها ومثلها، أي الحقيقة [V آخر 475].
وفي هذا الإطار، يميز سقراط بين الفلاسفة من جهة ومحبي الفنون، وبين الفلاسفة وعامة الناس من جهة أخرى: ذلك أن الفلاسفة ليسوا أيا من هؤلاء. لأنهم لا يسعون مثل محبي الفنون إلى معرفة الألوان البديعة، أو الأنغام العذبة، أو الأشكال الجميلة، أي كل ما يتمثل فيه الجميل، بل يسعون إلى تأمل الجميل في ذاته ومعرفته بما هو جمال. وبما هم كذلك فهم نادرون. ولأنهم ليسوا كالناس العاديين الذين يظلون متوطدين في الإدراك الحسي للأشياء، وراتبين في المظاهر. فما يعتقده هؤلاء الناس "معرفة"؛ ليس حسب سقراط، سوى ظن Opinion، لأنهم لا يتجاوزون في إدراكهم للأشياء عتبة المظاهر. أما معرفة الفلاسفـة، فهي "المعرفة الحقـة" لأنها معرفـة بالأشياء في ذاتها، أي في ماهياتهــا [ 476-V]. وما دام الأمر كذلك، يستنتج سقراط، بأن الفلاسفة ليسوا محبي الظن بل "أولئك الذين يتعلقون في كل الأحوال بحقائق الأشياء" [ 480-V] .
تلك هي أهم عناصر الأطروحة التي قدمها سقراط عن الإشكال السابق، على الأقل في الجزء الأخير من الكتاب الخامس. أما في بداية الكتاب السادس، فيذكرنا:
• بأن ما تم القيام به حتى الآن ليس سوى تحديد صورة الفيلسوف مقارنة مع عامة الناس.
• أن هذه المسألة، إنما كان الحديث عنها، من أجل مقاربة الإشكالية المركزية: طبيعة الحياة العادلة مقارنة مع غير العادلة.
• أن ما يجب الاستمرار في بحثه هو محاولة الإجابة عن نفس السؤال المطروح في ما سبق: أيهما: الفيلسوف أم غير الفيلسوف، ينبغي أن نعهد إليه بالإشراف على إدارة الدولة؟ [484.VI].
إن الجواب الذي يقدمه سقراط عن هذا السؤال لا يختلف عما سبق تقديمه في نهاية الكتاب الخامس: إذ بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره من الصفات، يرى سقراط أن الفيلسوف الحقيقي الذي يستحق أن يكون حاكما للمدينة-الدولة، هو ذاك الذي تتوفر فيه هذه الصفة الأساسية: الصدق وعدم الكذب أو قبوله بكيفية مطلقة: لأن من يحب الحكمة ويسعى إلى تحصيل المعرفة والعلم، لابد وأن يكون بالضرورة متعلقا بالحقيقة. لكن ليست الحقيقة التي تحقق اللذة الروحية فقط، بل كذلك تلك التي تحقق اللذة الجسدية. فالفيلسوف الحقيقي هو ذاك الذي يتمتع بخاصية الاعتدال فلا يغلب جانبا على آخر. كما يجب أن يتصف بسمو النفس ونبلها، التي لا تعرف الوضاعة والخوف من الموت، وأيضا بالنزاهة والعدل والرقة وحسن المعاملة. وكذلك بسرعة الفهم وقوة الذاكرة... [أنظر الكتاب VI 487 حيث هذه الصفات واردة كلها].
وفي هذه اللحظة من الحوار، التي يبدو أن سقراط وغلوكون، قاما بإحصاء الصفات التي يجب أن تتوفر في الفلاسفة الحكام، يتدخل أديما نتوس ليعيب على سقراط طريقته في الحوار، باعتبارها طريقة تحاصر المتحاور معه، وتنطوي على نوع من التضليل، تنتجه بنسب ضئيلة في كل لحظة، الكيفية التي يتم بها طرح السؤال والإجابة عنه والاستنتاج منه، من طرف سقراط، مما يجعل الطرف المتحاور معه لا يشك في صحة ذلك، لكن بتراكم تلك النسب يظهر أن ما تم اعتباره حقيقة في البداية، ليس سوى خطأ جسيم في الأخير.
إن هذا، ينطبق حسب أديما نتوس، على ما أورده سقراط عن صورة الفلاسفة الذين يراد منهم أن يكونوا حكاما للمدينة. فقد رسم لهم سقراط صورة مثالية لا تمت بأي صلة إلى الواقع. إذ عكس ما يقوله، ليس الفلاسفة في نظر أغلب الناس سوى مخلوقات غريبة وضارة أكثر مما هي نافعة للمدينة. [ 487-VI].
إن هذه الملاحظات التي سيتقدم بها أديما نتوس، سيستغلها سقراط للاستمرار في رسم صورة الفيلسوف الحقيقي. لكن هذه المرة، ليس بمقارنته مع الإنسان العامي وحده، بل مع شبه الفيلسوف، أو الفيلسوف المزيف، أو المقلد للفيلسوف الحق، الدعي أو المدعي للفلسفة والحكمة، أي السوفسطائي.
وعلى الرغم من أن سقراط، لم يستعمل بشكل صريح ومرة واحدة هذه التسميات كلها، يمكن تبين ذلك على امتداد الفقرات [.VI489- 490-491]، كما يمكن تبين ملامح السوفسطائيين فهم حسب سقراط: المسؤولون عن النظرة السلبية التي ترسخت لدى العامة (الجمهور) عن الفلسفة. وهم بالمقارنة مع الفيلسوف الحقيقي يمثلون نسبة كبيرة على الرغم من أن الفئة التي ينتمون إليها جميعا (السوفسطائيون والفلاسفة معا) قليلة العدد، كما أنهم كثيري الوقوف على أعتاب الأغنياء كونهم يعلمون بالمقابل، وذوي طبائع مرذولة وغير مؤهلين إلى تعاطي هذه المهنة مما يؤدي بهم على تشويه صورة الفيلسوف الحقيقي. وما يفسد طبيعتهم التي هي نفسها طبيعة الفلاسفة الحقيقيين، مؤثرات كثيرة ومتنوعة أهمها:
• التربية الفاسدة في كل أبعادها والتي يقرها الجمهور، التي تفسد فيهم الصفات السالفة الذكر التي تم تخصيص الفيلسوف الحقيقي بها: أي الحكمة، العدالة والشجاعة...
• مباهج الحياة من مال وجمال وسلطة ونفوذ وقوة ... إلخ.
• الإكراهات المادية والضغوط التي يمارسها الجمهور بمعية السوفسطائيين أنفسهم (القمع- الحرمان- القتل...).
إن هذا الجو الفاسد في كل شيء، لا يمكن لدروس السوفسطائيين أن تصلحه لسبب بسيط حسب سقراط: لأن ما يعتبره هؤلاء والجمهور حكمة ما هو في حقيقة الأمر إلا مبادئ التربية العامية في صورة أخرى، حيث الخير هو ما يسر الجمهور، والشر بالموازاة هو ما يغضبه، والعدل والجمال هو فقط، ما يتم وفقا للضرورة مهما تكن الفروق والاختلافات دقيقة بين هذه المفاهيم، وحيث قوام الحكمة يختزل في معرفة غرائز وأهواء العامة، وليس في معرفة ماهيات الأشياء.
إن السوفسطائيين إذن، حسب سقراط جزء من العامة، ولا يختلفون عنها في أي شيء. ولذلك تراهم يتملقون لها ويحرصون معها على انتقاد الفلاسفة الحقيقيين وتشويه صورتهم. وهم فضلا عن ذلك أناس مغترون بأنفسهم. [ 494-VI كاملة]، ومنهم من ليس لها أهلا بالطبيعة (وهؤلاء هم الدخلاء الغرباء على الفلسفة). إذ كثير منهم دخل إليها من باب الصدفة بعد أن امتهن مهنا وضيعة فكانت النتيجة: صياغة وترويج مغالطات وسفسطة فاعتقد وأراد لها أن تكون حكمة حقيقية [ 496-VI].
في إطار هذا الهجوم والانتقاد الشديد للسوفسطائيين ينخرط سقراط بحماس وبعاطفة وشاعرية، في الدفاع عن الفلسفة. شاعرية يتخللها أحيانا كثيرة نوع من التشكي والتحسر على ما آلت إليه، كما ينخرط بموازاة ذلك في سب السوفسطائيين، لكونهم المسؤولين عن كل ما تتعرض له الفلسفة من تحامل من طرف العامة، غير أن ما يثير الانتباه، هو أن سقراط لم يستمر في هذا التشكي وهذا القدح إلى ما لا نهاية، كما لم يدفعه ذلك كله، إلى الدعوة إلى ضرورة ابتعاد الفلاسفة عن معترك الحياة، ليتصوفوا حفاظا على نقاء طبيعتهم، بل يلح على ضرورة تحمل الفلاسفة الحقيقيين للمسؤولية طالما أنهم الأجدر بحكم المدينة-الدولة.
هكذا يتطرق سقراط إلى نقطة تصل الحوار بلحظاته السابقة، تتمثل في التأكيد على أن لا دولة من الدول الحالية يمكن أن يستقيم فيها أمر الفلسفة ويتحسن وضعها، إلا المدينة-الدولة التي تم رسم معالمها منذ بداية الحوار. ومن هذا تنبثق أولى المهام التي يجب على الفلاسفة الحقيقيين القيام بها حين تولي الحكم. فأن يحكم الفلاسفة معناه، بالإضافة إلى ما سبق أن تمت الإشارة إليه في الكتب السابقة:
• أن يضعوا برنامجا لتنظيم دراسة الفلسفة مناسبا مع أعمار المواطنين[498-VI].
• أن يستعطفوا العامة ويتوسلوا إليها من أجل تبديد كراهية المعرفة الحقة التي رسخها لديها السوفسطائيون.
• أن يصلحوا ما أفسده هؤلاء بتشكيل طبائع الجمهور وصياغة قالب الحياة العامة.(رعاية نقاء المعادن، وفي هذا تكمن العدالة).
• إعداد وتخطيط صورة عامة للمدينة يتحدد فيها كل شيء (التشريع بكل أنواعه).
• إقبار كل القوانين والتشريعات القديمة بعملية مسح شاملة لكل ما هو موروث (تنظيف القماش، وهو ما قام به أفلاطون نفسه في رسمه منذ بداية الحوار، لصورة المدينة- الدولة العادلة). [501-VI].
وكل هذا، من خلال تركيز النظر على العالمين: العالم العلوي وعالم البشر: باعتبار أن الأول هو عالم مثل الجمال والعدالة والخير... وأن الثاني هو عالم الحياة المعيشة، فيأخذوا في رسم صورة هذا الأخير على غرار ما يوجد في الأول حتى يكون صورة تحاكيه في كل شيء [501-VI].
بعد هذا كله، يتطرق سقراط في إطار الحوار مع أديما نتوس دائما إلى مسألة فصل فيها القول سابقا، هي مسألة التربية عموما، وتربية فئة الحكام خصوصا، إذ بالإضافة إلى كل ما سبق أن تمت الإشارة إليه في الكتب السابقة من تربية على الموسيقى والرياضة البدنية بكل اختباراتها العسيرة[503-VI]، وبالإضافة إلى كل الصفات التي سبق التأكيد على ضرورة اتصاف الحكام بها: من سرعة الفهم، قوة الذاكرة، الاعتدال، سمو النفس... يجب تعريضهم لنوع آخر من الاختبارات لكي يتم التأكد من صمود أنفسهم أمام أرفع أنواع المعارف والدراسات، أي المعرفة العليا.
فخلافا لكل الفئات في المدينة، يجب على الفلاسفة المراد منهم أن يحكموا المدينة التخصص في هذه المعرفة العليا، التي ليست هي المعرفة بمثل الجمال والعدالة والحقيقة... بل بمثال الخير La figure idéale du Bien .
لكن، ما المقصود بمثال الخير هذا؟
إنه السؤال الذي يثيره أديما نتوس. أما جواب سقراط عنه فقد استغرق الصفحات الأخيرة من الكتاب السادس[من 505 إلى 511 ]، وتطلب منه ذلك القيام بعدة خطوات منهجية:
• في مرحلة أولى: بعرض تعريف العامة التي تحصره في اللذة، وتعريف "نخبة" هذه العامة (والمقصود: السوفسطائيون) التي تحصره في المعرفة.
• في مرحلة ثانية: بانتقاد هذين التعريفين، باعتبار أن عامة الناس تجهل بأن اللذة يمكن أن تكون خيرة مثلما يمكن أن تكون شريرة، وباعتبار أن خاصة العامة تعجز عن تبيان المقصود من المعرفة، إذ تنتهي في كل الأحوال إلى الإقرار بأن معناها هو "معرفة الخير" دون إضافة أي جديد.
• في مرحلة ثالثة: بتقديم تعريف عام له مدرج في آخر الفقرة [501-VI] على الشكل التالي: "هذا الشيء الذي تسعى إليه كل نفس، وتجعل منه غاية لكل أفعالها، وتتكهن بوجوده دون أن تعلمه علم اليقين، أو تحدد ماهيته بدقة، كما تفعل بالنسبة إلى باقي الأشياء، مما يؤدي إلى فقدان المزايا التي يمكنها أن تستمدها منه...".
• في مرحلة رابعة: بعد عدم اقتناع أديما نتوس بهذا التعريف، الذي ليس تعريفا بل مدحا، وطرحه السؤال من جديد [ما الخير: إذا لم يكن هو اللذة كما تقول العامة؟ والمعرفة كما تقول خاصة هذه العامة ؟]، بتعريفه من خلال ضرب الأمثلة وإجراء المقارنات والتذكير ببعض العناصر التي سبق أن وردت متفرقة خلال لحظات عديدة من الحوار:
أما هذه العناصر التي يذكر بها سقراط، فتتمثل في التأكيد السابق على أن ما يميز الفيلسوف عن عامة الناس والسوفسطائيين، إنما هو توطد هؤلاء في مظاهر الأشياء الكثيرة والمتغيرة، وسعي الفيلسوف إلى بلوغ الماهيات الثابتة والخالدة. وهو ما يعني حسبه أن هناك عالمين: عالم مرئي تدركه العامة والسوفسطائيون بالحواس، وعالم معقول يدركه الفلاسفة وحدهم بالعقل. العالم الأول هو عالم الكثرة والتنوع والتغير... والعالم الثاني هو عالم الوحدة والثبات والصور والمثل... [VI ابتداءا من 507].
لكن لما كان الإدراك الحسي في العالم المرئي (الإبصار هنا) لا يتم إلا بتوفير الشمس للنور والضوء: إذ يستحيل أن يحصل الإبصار مثلا، على الرغم من تمتع العين بالقدرة على الإبصار، والرغبة في ذلك، وتوفر الأشياء التي يراد إبصارها على اللون... فكذلك لا يتم إدراك المثل والمعقولات بالعقل في العالم المعقول إلا بمثال الخير. وهذا الخير نفسه هو الذي خلق الشمس حتى تكون لها في العالم المرئي بالنسبة إلى الإدراك الحسي (الإبصار) والأشياء المحسوسة (المبصرات)، نفس المنزلة التي له في العالم المعقول بالنسبة للعقل والمعقولات. غير أنه مثلما أن الشمس في العالم المرئي لا تقتصر وظيفتها في مساعدة الحواس على إدراك المحسوسات، بل في كونها تشكل أصلها، إن لم تكن هي نشأتها تحديدا، فكذلك مثال الخير لا تقتصر وظيفته في مساعدة العقل على إدراك المعقولات والمثل (الجمال، العدالة، الحقيقة...) فقط ، بل في كونه يشكل أصلا لهذه المثل ووجودها. وحتى إن كان مثالا، فمرتبته الوجودية ليست نفسها مرتبة المثل الأخرى، لا من حيث هو المساعد على معرفتها فقط، أو من حيث هو موجدها أيضا، بل من حيث إنه يفوق الوجود نفسه قوة وجلالا [509-VI].
ومثلما أن المرء في العالم المحسوس يصيب حين يعتقد بأن النور والإبصار مشابهان للشمس، ويخطئ إذا اعتبرهما هما الشمس ذاتها، كذلك المرء سيصيب حينما يعتقد بأن المثل الأخرى كالجمال، العدالة والحقيقة... مشابهة لمثال الخير، لكنه سيخطئ إذا اعتبر هذه المثل هي الخير ذاته. فمثال الخير هو ما يضفي الحقيقة على موضوعات المعرفة، وما يمنح ملكة المعرفة للعارف. فهو علة العلم والمعرفة. وحتى إن كان موضوعا لمعرفة الفلاسفة، فهو يتجاوز المعرفة والحقيقة ويسمو عليهما[508-VI].
وما دام كذلك، فالمسلك الذي يجب على الفلاسفة الحقيقيين سلكه لمعرفته كمبدأ مطلق، هو إعمال العقل L’Activité spirituelle، وليس الفهم La pensée، أو الاعتقاد La conviction، أو التخيل(L’imagination( . لأن هاتين المرتبتين الأخيرتين تدخلان معا في مرتبة الظن l’opinion الذي موضوعه الأشياء المادية الواقعية المدركة بالحواس من طرف العامة (والسوفسطائيون ضمنهم)، بينما مرتبة الفهم La pensée، ترتبط بالعلوم الرياضية والهندسية التي موضوعها كما يقول سقراط: "الفئة الأولى من المعقولات" أي الأعداد والأشكال، والتي وإن كان ينطلق لإدراكها من مسلمات غير مبرهن عليها ينزل في دراستها إلى صور الأشياء المادية والواقعية (الظلال والأشباح)؛ بينما مرتبة العقل l’intellection ترتبط فقط بالفلاسفة الحقيقيين، ولا ينطلق فيها من المسلمات، ولا من صور الأشياء المادية، بل من المثل ذاتها من أجل بلوغ المبدأ المطلق الذي هو مثال الخير، وبما هي كذلك فهي تستلزم الدياليكتيك أي فن الحوار) La science du dialogue( .
تعليق : البنية الحجاجية والقيمة الفلسفية
تلك هي "الإجابة"( ) التي يقدمها سقراط عن الإشكال المتعلق بالسبل الكفيلة بتحقيق المدينة- الدولة العادلة على أرض الواقع. ويتضح من خلال التأمل فيها كيف أنها لم تأت مقتضبة مباشرة، بل تضمنت أكثر من عنصر. ومرد ذلك أن الإشكال نفسه كان حاملا لتساؤلات عديدة: فلقد كان من المفروض لكي تتم الإجابة عنه، التطرق إلى هذه التساؤلات:
 من هم الفلاسفة الحقيقيون الأجدر بحكم المدينة؟
 ما معنى أن يحكموا ؟ وما هي المهام الملقاة على عاتقهم؟
 وأية تربية تليق بمقامهم؟ وأية معرفة يجب تدريبهم على نهلها؟
 وأية مسالك تمكنهم من بلوغها؟
كما كان من المفروض كذلك، للإجابة عن هذه التساؤلات، الإجابة عن أسئلة أخرى جزئية انحدرت بكيفية طبيعية من تلك، يمكن صياغتها كالتالي:
 ما الذي يميز الفيلسوف الحقيقي عن العامة؟
 ما الذي يميز الفيلسوف الحقيقي عن السوفسطائي؟
 لماذا تتحامل العامة والسوفسطائيون على الفلسفة؟
 ما الفرق بين ما يسمى "الحكمة" عند كل من عامة الناس والسوفسطائيين من جهة، وعند الفلاسفة الحقيقيين من جهة أخرى؟
 ما الفرق بين الظن عند هؤلاء والمعرفة الحقة عند الفيلسوف؟
 ما السبيل إلى المعرفة الحقة؟
 ما المثل؟ وما مثال الخير تحديدا؟
 وأية طريقة أنجع لإدراكه؟
لكن إذا كان سقراط قد أجاب عن هذا كله، فبأي معنى يمكن القول إن هذه "الإجابة" قد ساهمت في مقاربة الإشكالية المركزية في المؤلف ككل؟ أين كل هذا من طبيعة العدالة والظلم؟ وبقية العناصر الأخرى المؤلفة للإشكالية المركزية؟
بصدد هذه المسألة، يمكن القول، ودون الدخول في التفاصيل والجزئيات، بأن ما قدمه أفلاطون على لسان سقراط في هذا الكتاب السادس ما هو إلا تعميق لأطروحته حول العدالة: ذلك أ، هذه الأخيرة قد سبق أن تحددت كالتزام من طرف كل فرد داخل المدينة على القيام بالوظيفة التي حددتها له الطبيعة، وعدم التعدي على اختصاصات الآخرين، وعليه فإن حكم الفلاسفة لهذه المدينة يعني من بين ما يعنيه – وقد ورد هذا في الكتاب III.415: رعاية هذا الالتزام والعناية الكبرى بالمعدن الذي يدخل في تركيب نفوس الأفراد والفئات، وكل ذلك بفضل جميع الصفات والقدرات التي يتمتعون بها مقارنة مع باقي الفئات. فلا عدالة – كما جاء في الكتابV.473 - في غياب تولي الفلاسفة حكم المدينة، بل إن وجود هذه الأخيرة واكتمال نموها غير مضمونين بدونهم. فهم يشكلون جزءا من نسيجها العام، وفي نفس الوقت يمثلون الجزء الذي يمنح لها الحياة والحركة. إنهم في ذات الوقت سبب ونتيجة.
لكن إذا كان أفلاطون على لسان سقراط قد أجاب عن الإشكال المطروح في هذا الكتاب، فكيف ثم له ذلك؟ وأي منهج استعمله؟
لم يستعمل أفلاطون، على لسان سقراط من أجل إقناع محاوريه في هذا الكتاب السادس، طريقة واحدة. وما يمكن ملاحظته عموما في حواره مع كل من غلوكون وأديما نتوس، هو سيادة الرتابة والبرودة على امتداد صفحاته: فسقراط، هو الذي يسأل، يفترض، يستدرك، يضرب الأمثلة، يجيب ويعلق، ويستطرد... أما غلوكون وأديمانتوس- وباستثناء تدخل يتيم لهذا الأخير في الفقرة [I 476.]. على شكل اعتراض محتشم على طريقة سقراط في الحوار التي تعتمد المحاصرة...- فإنهما يسايران، يوافقان، يزكيان، يمجدان،... كل ما يقوله سقراط، بل أحيانا يتعجبان وينبهران. ولهذا فإن "المنهج التوليدي" الذي اشتهر به سقراط، والذي يتحدث عنه مؤرخو الفلسفة عموما، لم يتجسد بشكل جيد على الأقل في هذا الكتاب، بل تجسد بشكل باهت وخجول: وما يدل على هذا هو سيادة أطروحة سقراط منذ الكتاب الثاني، ولزوم تراسيماخوس الذي كان يدافع عن الأطروحة المضادة، بالصمت. فمنذ الكتاب الثاني حيث يحس القارئ بنوع من الحرارة والدفء في الحوار، لم تتجاوز اعتراضات غلوكون وأديما نتوس مستوى الالتماسات لمناقشة هذه النقطة عوض تلك، وابداء ملاحظات لا تؤثر في النتائج التي يقرها سقراط.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول، ودون تحفظ كبير، بأن الطريقة التي اعتمدها سقراط في الحوار، على الأقل في الكتاب السادس وما قبله بقليل، هي الطريقة التقريرية للأفكار. وما يدل على هذا كثير جدا: ذلك أن أفكاره لا يبنيها من خلال ركوب تجربة الجدل المحضة أو البرهان: فهو لا ينطلق من مقدمات ومن حدود منطقية، بل يستنتجها غالبا ويقرها انطلاقا من إجراء مقارنات وضرب للأمثلة، واعتمادا على إسقاطات وتماهيات. وكل ذلك باستعمال أساليب تطغى عليها العاطفة والحماس والشاعرية، وأحيانا كثيرة: التحسر والتشكي...، وبخلق الهالة وتضخيم الأمر كلما تعلق الأمر بمسألة جديدة لم تناقش بعد، وباستعمال الحكم والأمثال...
أما بالنسبة لضرب الأمثلة، وإجراء المقارنات والقيام بالتشبيهات، فيكفي أن نقول من باب الإيجاز، بأن عددها في الكتاب السادس يفوق العشرة؛ كما تكفي الإشارة إلى أن الفقرة [VI.488] جاءت كاملة على هذا المنوال. أما عن العاطفة والحماس والشاعرية، وكذا التحسر والتشكي، فواضح كل هذا على امتداد صفحات الكتاب السادس، خاصة في دفاع سقراط عن الفلسفة ضد تحامل العاملة والسوفسطائيين، إلى درجة التماهي والاسقاط الذي يعكسه تناص واضح بين هذا الدفاع وبين دفاع سقراط عن نفسه أمام قضاته في محاورة "الدفاع"، وبين شذرات من كلامه وهو يحكي قصة موته في محاورة "فيدون"، وبين شذرات بل فقرات تخص هجومه على السوفسطائية في محاورات "السوفسطائي"، "بروتاغوراس" و"جورجياس"، حيث يحس القارئ في بعض اللحظات من الحوار بنفس النبرة التي تسود لحظات من الحوار في هذه المحاورات كلها، بل ويدفعه ذلك على التساؤل: أيدافع أفلاطون على لسان سقراط، عن الفلسفة في هذا الإطار الخاص، وهو بصدد إشكال محدد هو: [كيف يمكن تحقيق المدينة العادلة؟]، أم اختلط عليه الأمر، فتماهى وعمد إلى إسقاطات جعلته ينبري على لسان سقراط دائما في الدفاع عن الفلسفة وكأنها سقراط: معلمه العزيز الذي أغضبه أيما غضب إعدامه من طرف الآثينيين؟ ! .
- أما بالنسبة لتضخيم المسائل كلما تعلق الأمر بمشكلة جديدة، فذاك وارد في غير ما موضع. وللتحقق يكفي الرجوع إلى الكيفية التي بها دخل سقراط لى مناقشة مسألة حكم المدينة من طرف الفلاسفة [V.472 ] ومسألة رسم صورة الفيلسوف الحقيقي مقارنة بالسوفسطائي [VI.487-488]، ومسألة مثال الخير الأسمى [VI.502]… وغيرها.
- أما الأمثال والحكم المأثورة، فيمكن القول بأن عددها على الأقل في هذا الكتاب السادس ثلاثة، وهي حكم وأمثال بليغة وتصلح أن تكون في حد ذاتها موضوعا لحوار لا ينتهي [ٍVI.491، 497، 504].
- أما بالنسبة للأساطير، فلم تعدم هي الأخرى حقها في الخطاب الأفلاطوني، لا في هذا الكتاب السادس فقط، بل أيضا في الكتب السابقة كذلك. لكن عددها في هذا أسطورتان: أسطورة موموس [ٍVI. 487] وأسطورة النبوءة التي أوحت لسقراط بالابتعاد عن السياسة والانخراط في الفلسفة [ٍVI. 498]، ولا غرابة في ذلك، لأن حتى الكتاب VII سيبدأ بأسطورة كبيرة ستملأ أكثر من صفحة [ أسطورة الكهف VII من 514 إلى 418].
غير أن هذا كله، لا يعني افتقار الطريقة الأفلاطونية لأية قيمة: فجدتها وأصالتها تكمن بالذات في قدرة أفلاطون – قدرة سقراط- على الإتيان بأمثلة مكونة من أكثر من عنصر، قوية تنقل القارئ من المشخص إلى المجرد، ومن عالم الإدراك الحسي إلى عالم المعرفة العقلية؛ وعلى الجمع البارع للأطراف العديدة للمقارنات التي يجريها، والتي لا محالة يجد فيها صعوبة بالغة كما أباح بذلك سقراط نفسه لمحاوريه أكثر من مرة [ٍVI. 488].
هذا فضلا عن أن التشبيهات التي يستعملها، تسمو عن أن تكون أدبية محضة، لكونها تأتي على الدوام حبلى بأفكار قوية، تمنح الخطاب صرامته الفلسفية التي يفتقر إليها على على مستوى الشكل والأسلوب. إلا أن التمثيل والتشبيه، وإن كان يضفيان نوعا من الفتنة الجمالية على النص الأفلاطوني، يظلان في حاجة إلى دراسة متأنية لإبراز أبعادهما التربوية (من حيث إنه لا تدريس للفلسفة من غير تمثيل يشخص المجرد)، والتقنية (من حيث إنهما في حد ذاتهما صناعة وفن، إذ ليس كل واحد قادر على ضرب المثال وصياغة التشبيه بالمعنى الذي نجده عند أفلاطون وغيره من الفلاسفة الكبار( ).


 
استطلاع
 


هل تثق في مشروع اصلاح التعليم المغربي؟
نعم
لا

(Afficher le résultat)


لتكن لديك الشجاعة على استخدام عقلك
 
فضاء للتفكير العقلاني
في قضايا التربية و التكوين
فكرة اليوم
 
إننا لا نرى في العالم سوى ما
نحتاج لرؤيته فيه
 

تاريخ اصدار الموقع: 23- 02- 2012
 
موقع يجدد كل يوم حسب أبوابه
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement