تجليات العقل الغربي الحديث في مجال السياسة
- نظرية روسو السياسة نموذجا-
إنجاز : الأستاذ عبد الله زرهوني
تقديــــــــم :
يجوز لنا القول، منذ البداية ، بأن فلسفة روسو، معتبرة في جميع أبعادها، تعد بحق لحظة من اللحظات الأساسية في الحداثة الغربية بصفة عامة، بل هي رافد من الروافد الهامة التي تغذت منها هذه الأخيرة واغترفت أهم مفاهيمها، ومقولاتها وتصوراتها... خاصة في مجال السياسة. والأمر كذلك لأنه مع روسو ستتحقق في القرن 18، أهم تلك الانتقالات الحاسمة التي تمت في أوروبا الحديثة: في المجال الفكري: من فلسفة الأنساق الكبرى إلى ما سيصطلح عليه بـ"الفلسفة الشعبية"، في المجال العقدي: من الدين المنزل إلى الدين الطبيعي، وفي المجال السياسي: من قداسة السلطة إلى السلطة باعتبارها تعاقدا.
إن هذه الانتقالات تتجسد في فلسفة روسو، مع نوع من التفاوت في هذه المجالات. لكن المجال الذي تتجلى فيه بوضوح هو المجال السياسي. لماذا ؟ لأن كل ما كتبه روسو، لا يروم في الحقيقة إلا التأسيس لنظرية سياسية تستجيب لكل هذه المتطلبات، ولا يبتغي سوى التأصيل لما سبق أن تطرق إليه غيره من مفكري عصر الأنوار، والقرنين السابقين (16 و17) ، خاصة في مجال الفلسفة السياسية: قراءة واعتبارا، تفسيرا وتأويلا، استشكالا وانتقادا...
إن من يقرأ روسو، سيجد فعلا أن فلسفته السياسة في مجملها، تشكل بؤرة تنصهر فيها أغلب عناصر فلسفات سابقيه ومعاصريه: بدءا بمن يسميهم هو نفسه بفقهاء "الحق الإلهي" (خاصة: رامساي، فيلمر، بوسيي) ، ومرورا بفقهاء "الحق الطبيعي" (خاصة: بوفاندرف، غروتيوس...)، ووصولا إلى "منظري الاستبداد السياسي" (خاصة منهم: هوبز). غير أن هذا لا يعني أن نظريته السياسية لا تحمل أي جديد، إذ جدتها تتمظهر بالدرجة الأولى في مقارعته الاعتبارية والاستشكالية والنقدية لهذه النظريات كلها، كما تتمظهر في العناصر المكونة لها نفسها، وفي مضامينها ذاتها. وعلى هذا الأساس فإن كل كلام عن مدى مساهمات روسو، في صقل العقل السياسي الحداثي، الذي بدأ يعتمل قبله بفترة طويلة مع كل من: ماكيافيلي، هوبز، لوك،... ومع مفكري الأنوار المعاصرين له من أمثال: ديدرو، فولتير، هولباخ، هيلفوسيوس، مونتسكيو وكانط... إن الكلام عن مدى هذه المساهمة، لا يمكن أن يستقيم منهجيا بالوقوف فقط عند قراءات روسو وانتقاداته لمساهمات كل هؤلاء، بل برصد مضامين نظريته السياسية، وتبيان أهم عناصرها ومفاهيمها.
فما هي نظرية روسو السياسية؟ وعلى أية مفاهيم تتأسس؟ وأية علاقة تربطها(2) بالنظريات السياسية التي صاغها السابقون عليه: خاصة فقهاء "الحق الإلهي"، فقهاء "الحق الطبيعي"، و "منظرو الاستبداد السياسي"؟ أي ما موقعها صمن كل هذا الإرث / المتن السياسي الذي تبلور منذ القرن السادس عشر؟ وهل تتضمن جدة ما في تناولها لما أرق كل من سبقوه؟ أم أنها لا تعدو أن تكون سوى إعادة ما وتكرار في حلة جديدة؟
إن مقاربة هذه التساؤلات/ الإشكالات، يقتضي منهجيا في المقام الأول: عرض نظرية روسو السياسية، على الأقل في خطوطها العريضة وإبراز المفاهيم الأساسية التي تشكل لحمتها، كما يقتضي ، في المقام الثاني: تفصيل القول حول جدتها وأصالتها مقارنة مع النظريات التي ساجَلتها وانتقدتها. وهو ما يعني أن هذا العرض المتواضع من المفروض يتكون من محورين أساسيين تندرج ضمن كل واحد منهما فقرات. غير أنه مع ذلك لاعتبارات لا داعي لذكرها هنا سيتم الاقتصار على عرض نظرية روسو السياسية كما تمت صياغتها على الأقل في مؤلفين لروسو، هما : "خطاب حول أصل التفاوت بين الناس"، و "في العقد الاجتماعي"* .
1- مفهوم "حالة الطبيعة"L’Etat de Nature
في سبيل تشييد نظريته السياسية، ظل روسو وفيا للتقليد الذي رسخه من سبقه من أعلام الفلسفة السياسية ومن عناصره، إذ لا نجد أي واحد من هؤلاء، لم يتطرق إلى ما يمكن أن تكون عليه "الدولة" أو "المجتمع"... دون الانطلاق من مفهوم "حالة الطبيعة" .
وبالنسبة لروسو، يعتبر خطابه الثاني "حول أصل التفاوت بين البشر" الكتاب الذي فصل فيه القول حول هذه الحالة. لكن قبل عرض مجمل ما قاله روسو حولها، لابد من بسط هذه الملاحظات الأولية:
• "حالة الطبيعة" في نظر روسو، ليست سوى حالة الإنسان قبل تشكل المجتمعات والقوانين أو بتعبيره: "حالته كما برته الطبيعة رغم التغيرات(...) والتطورات التي أحدثها في تكوينه وفي بنيته الأصلية تعاقب الأزمان وتقلبات الأشياء"(3).
• "حالة الطبيعة"، بهذا المعنى لا يجب أن يفهم منها أنها "مرحلة تاريخية" قائمة عاشها الإنسان قبل "حالة المجتمع"، ويمكن إثباتها بالوثائق التاريخية، بل هي "حالة افتراضية" يغيب فيها المجتمع تصلح فقط كنقطة انطلاق للتأمل حول أصل الشرور والويلات التي حلت بالبشر، ولتبين أي الإصلاحات يجب مباشرتها لإصلاح شؤونهم.
• "حالة الطبيعة" ليست حالة ممتدة في مرحلة زمنية واحدة، بل هي لحظات تخللتها لحظات ثلاثة أساسية لكل منها خصائص محددة:
- اللحظة الأولى: تمثل الإنسان الفرد أو المفرد، الهائم على وجهه في الطبيعة، منظور(3) إليه في ضوء غرائزه وحدها. وأهم ما يميزها حسب روسو: أنها كانت حالة سعادة تامة للإنسان لعدة اعتبارات أهمها: غياب أي نوع من العلاقات الأخلاقية والأدبية أو الواجبات المعروفة بين الناس، غياب كل المفاهيم التي تؤطر مثل هذه العلاقات من عدالة وظلم، فضيلة ورذيلة، صواب وخطأ،...، سيادة البساطة في الحياة، حيث كان الناس يعيشون منعزلين ولا تساورهم أية حاجة إلى أمثالهم، بلا حرفة أو عمل، وكانت رغباتهم كلها تنبثق عن حاجاتهم الجسدية: الطعام، الأنثى، الراحة، لأن أشد ما يمقته الإنسان: كل عمل يتطلب الجهد والعناء. أما عن وظائفهم النفسية، فهي كما يقول روسو، في مستوى وظائف الحيوانات: "إن الابتغاء وعدم الابتغاء، الرغبة والخشية، هي الأفعال الأولى وربما الوحيدة التي تصدر عن أنفسهم" (2)، وعن أهوائهم يقول بأنها متولدة كلها عن نزوات طبيعية. إذ هم لا يحتاجون إلى أكثر من الغريزة. وحيث لا مساكن ثابتة لهم، ولا أسر، فإن العلاقات بين الجنسين عابرة ومؤقتة، والأطفال ينفصلون عن أمهاتهم حال اقتدارهم على تأمين قوتهم بأنفسهم. أما المشاجرات بصدد أرض أو أنثى... فنادرة، إذ كيف يحدث ذلك والأرض من حولهم شاسعة تزيد خصوبتها عن حاجاتهم إليها، والحب عندهم لا يتجاوز حدود الجنس، بل كيف يحدث ذلك، وهم لم يعرفوا بعد التفاخر والخيلاء، ولا يميزون بين ما هو خاصتهم وخاصة الآخرين؟ وهم لم يمتلكوا بعد "منازل ولا أكواخ ولا أملاك من أي نوع كان، بل كان الفرد منهم يأوي حيث تتيح له المصادفة لمدة ليلة واحدة، وكان الذكور والإناث يختلطون عرضا، وحسبما يتيح لهم ذلك اللقاء أو الفرصة أو الشهوة من غير أن تكون الكلمة ترجمانا للتعبير عن رغباتهم"(3).
- اللحظة الثانية: بدأت حسب روسو، مع بداية اجتماع الناس لأسباب كثيرة طارئة وغريبة. لكن أغلب الظن أنها كانت طبيعية بالدرجة الأولى: كالسنين المجدبة، وفصول الشتاء الطويلة القاسية، وفصول الصيف المحرقة... وغيرها. كل هذه الأشياء في نظر روسو دفعت بالناس الذين كانوا منعزلين، إلى الاقتراب من بعضهم البعض باستمرار. وهكذا بدأت اللغة تتشكل بعدما كانت وسيلة التعبير عندهم في اللحظة الأولى لا تتعدى تقليد أصوات الطبيعة نفسها. ومعها بدأت – باستمرار تلك الظواهر الطبيعية- عمليات التفكير الأولى لتبديل طريقة عيشهم: إذ دفعتهم إلى التماس وسائل للعيش جديدة: "... فعلى شواطئ البحار والأنهار اخترعوا الشص والصنارة، وأصبحوا صيادين وأكلة أسماك، وفي الغابات صنعوا لأنفسهم أقواسا ونبالا، وأصبحوا قناصين وصيادين ورجال حرب، وفي البلاد الباردة غطوا أجسامهم بجلود الوحوش التي كانوا يقتلونها. والرعد وأحد البراكين أو إحدى المصادفات الموفقة هدتهم إلى النار، ذلك المدد الجديد الذي تلقوه ليدفعوا به قرس برد الشتاء، وعرفوا أن يحتفظوا بهذا العنصر، وتعلموا كيف يعيدون توليده، ثم كيف يطهون به ما كانوا يلتهمونه قبل ذلك نيئا من اللحوم"(4).
إن تكرار هذه الأشياء كلها، يقول روسو: "قد أوجد ولا بد في نفس الإنسان إدراكا لبعض العلاقات" لكنها مع ذلك تبقى علاقات محددة وغير مكتفة و "لا تطول مدتها إلى أبعد من انقضاء الغرض الذي تكونت من أجله"(5).
يستطرد روسو في وصف هذه اللحظة من "حالة الطبيعة" قائلا، بأن تلك الخطوات على طريق التحضر قد ساهمت في شحذ حس الملاحظة عند الإنسان، فطفقت الأفكار تتكون لديه تدريجيا، وهكذا أخذ يدرك أن غيره من بني البشر يشعر بمثل ما يشعر به ويتصرف كما يتصرف هو. فصار يطلب أحيانا مساعدة الآخرين له. وما كان التعاون يتعدى في البداية تكون حالات متفردة . إذ كان الإنسان يطلب ذلك فقط لتحقيق هدف محدد. ثم بدأت تتكون رويدا روابط وتجمعات... فصنع البشر في تلك الحقبة من تطورهم الفأس الحجرية، وبنوا المساكن والأكواخ، فاكتشفوا لذة الإجماع إلى غيرهم... وحينها ظهرت الأسر المستقرة، وتمخضت العلاقات بين الجنسين عن أواصر أمتن وأكثر ديمومة...
إن هذه اللحظة الثانية من "حالة الطبيعة"، يعتبرها روسو، من أطول المراحل التي عاشها الإنسان، وتمثل في نظره شباب الإنسانية بعدما مثلت اللحظة الأولى طفولتها. ولإن كان ما يُعرف عن روسو، أنه مجد "حالة الطبيعة" فإن تمجيده لم يكن في حقيقة الأمر سوى لهذه الحقبة الزمنية بالذات. ولإن رأى أغلب المفكرين في أوجه التقدم اللاحقة لها: من فنون وعلوم، وصناعة وتقنية،... خطوات على طريق كمال الفرد والإنسانية، فإن روسو لم ير فيها سوى خطوات على طريق انحطاط النوع، كما سيؤكد في "خطاب حول العلوم والفنون". كيف ذلك؟ ولماذا؟ بكلمة واحدة: لأن ها هنا ستبدأ اللحظة الثالثة من "حالة الطبيعة".
-اللحظة الثالثة: إنها لا تمثل، حسب روسو، سوى شؤم ووبالِ مستطير على النوع البشري. يقول وأنظاره مشدودة إلى اللحظة الثانية: "لقد عاش البشر أحرارا، وأصحاء وصالحين وسعداء، طالما اقتنعوا بأكواخهم البسيطة، واكتفوا بلبس الجلود ثيابا... وبالريش والأصداف زينة... وانصرفوا إلى تجويد أقواسهم ونبالهم، وإلى تشذيب الأشجار بالأحجار القاطعة لصنع زوارق للصيد،... أي طالما لم ينشغلوا إلا بالأعمال التي في مقدور فرد واحد أن يقوم بها، وبفنون لا تستوجب مشاركة كثرة من الأيدي ... لكن ما أن راودت الإنسان حاجة إلى أن يؤازره آخر، وما أن أدرك الفرد الواحد فوائد جمع المؤن لاثنين، حتى اختفت المساواة، وظهرت الملكية، وغدا العمل ضروريا، وتحولت الغابات الشاسعة إلى حقول غنى، كان على الإنسان أن يرويها بعرقه. وسرعان ما نبتت فيها العبودية والشقاء والبؤس جنبا إلى جنب مع الغلال"(6).
بدأت اللحظة الثالثة من "حالة الطبيعة" إذن، بظهور الملكية الخاصة. ومع ظهورها خطا الجنس البشري خطوته الأولى نحو الانحطاط، يقول روسو في هذا الصدد: "إن أول من سَوَّرَ أرضا، فعنًّ له أن يقول: "هذا لي"، ووجد أناسا على قسط كبير من السذاجة فصدقوه، هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني. ألا كم من جرائم وحروب واغتيالات، وكم من ويلات وبؤس وفظائع كان أبعدها عن الناس، وكفاهم شرها، رجل قد هبَّ فاقتلع الأوتاد أو ردم الحفر، وصاح بالناس قائلا: حذار أن تصغوا إلى هذا الدجال المحتال، فإنكم لهالكون إذا أنتم نسيتم أن الثمار للجميع، وأن الأرض ليست ملكا لأحد!"(7).
إن هذا الحق – حق الملكية الخاصة-، في نظر روسو، هو الذي سيصبح منشأ كل الشرور، إذ من السهل تصور ما حدث فيما بعد: فقد نجح البعض في الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي، فغدت وقفا موقوفا عليهم. في حين آل الذين حال ضعفهم دون تملكهم ولو شبرا واحدا منها إلى حالة من الفقر والعوز. وهكذا اضطرتهم الظروف إلى أن يتلقوا كل ما يحتاجون إليه من أيدي الأغنياء أو إلى من ينهبوهم. ومن هنا تولدت علاقات السيطرة والاستعباد، وعلاقات العنف والنهب. إذ تذرع الفقراء المحرومون من الأراضي بحاجاتهم، ليدعوا لأنفسهم حقا في أملاك غيرهم يعادل حق الملكية. وقد ترتب على كل هذا صراع لا هوادة فيه بين "حق الأقوى" و"حق شاغل الأرض الأول"، وهكذا غدا "المجتمع الوليد" مسرحا لحروب ضارية، وفتن واضطرابات عارمة. وهكذا أصبحت "الملكية" حقا غير مضمون بما فيه الكفاية. ومن هنا كان لابد من تدبر وسائل جديدة لحمايتها: حيث لجأ الأغنياء – وهم المتضررون- إلى الحيلة للإيقاع بالفقراء، فابتكروا كما يقول روسو: "أذكى خطة اقتدر العقل البشري على ابتداعها" عندما قالوا للفقراء" "هيا نتحد لنكفي الضعفاء شر الاستبداد ولنوقف الجشعين عند حدهم، فنضمن لكل ذي حيازة ما يملكه. لننشئ نظما للعدالة والسلام، يلزم الجميع بالسير على مقتضاها، ولا تحابي أحدا، وتُقوم نوعا ما أهواء النصيب بإخضاعها القوي والضعيف على السواء إلى واجبات متبادلة. وبالاختصار: بدلا من أن نوجه قوانا بعضنا ضد بعض، فلنوحد هذه القوى في سلطة عليا تتولى الحكم فينا بحسب قوانين رشيدة تحمي جميع أعضاء الشركة وتدافع عنهم وتصد الأعداء المشتركين وتمسكنا ضمن وفاق أبدي"(8).
إن هذا الاتفاق، في نظر روسو، ليس سوى خدعة ومخاتلة، إذ لم يقم في نهاية الأمر، إلا بوضع قيود أمام الضعيف، وإمداد القوى بقوى أخرى جديدة. وبتلك الكيفية قضي على "الحرية الطبيعية" قضاء مبرما، وثبت قانون التملك والتفاوت إلى الأبد، وحوّْل الاغتصاب اللبق إلى حق لا ينقضي، وأخضع الجنس البشري إلى العمل والعبودية والبؤس، لجر المغانم على بعض ذوي الطموح والأطماع، حتى أصبح من المتعذر على الإنسان أن يتحرر من النير، ويفلت من السيف الذي يراه مسلطا دائما على رأسه(9).
هكذا، يقول روسو، تم نقل الإنسان من حالة المساواة التامة التي كانت له في "حالة الطبيعة"، إلى اللامساواة التامة التي أصبحت له في "حالة الاستعباد والاستبداد". إنها "النقطة التي تغلق الدائرة، وتلمس النقطة التي انطلقنا منها. وهنا يعود الأفراد إلى المساواة الكاملة، لأنهم ليسوا شيئا"(10). إنها "حالة طبيعية جديدة، تختلف عن الحال التي منها بدأنا، من حيث إن الأولى كانت حال الطبيعة في صفائها ونقاوتها، وأن الثانية كانت ثمرة الإفراط في الفساد"(10).
ما ذا يفيد هذا الكلام؟
إنه يفيد، بأن ما تأسست عليه المجتمعات الراهنة، ليس سوى خدعة دبرها "ذوو الأطماع والطموح" للإيقاع بالفقراء، وعليه فإن من الواجب رد الأمور إلى نصابها.
إنه يفيد بأن "التعاقد" الذي أبرمه أولئك مع هؤلاء ليس إلا تعاقدا مزيفا... وأن الاجتماع البشري على هذا الشكل غير مقبول وغير معقول، لدرجة أصبح معها التفكير في صيغة أخرى للاجتماع ضروريا. صيغة أخرى للاجتماع منها تتم البداية والعمل بمقتضى أحكامها.
إن هذه الصيغة لن تكون سوى صيغة "التعاقد الاجتماعي الحقيقي". وهو المفهوم الثاني الذي يشكل البناء النظري للنظرية السياسية الروسوية.
2 – مفهوم "التعاقد الاجتماعي"Le contrat social
ما هو التعاقد الاجتماعي حسب روسو؟ وما مضمونه؟ وكيف يتحقق؟ وضمن أية شروط؟
يقول روسو، في ماله علاقة بمعنى التعاقد: "إذا عدنا بهذا الإشكال إلى موضوع بحثي، أمكنت صياغته على النحو التالي: إيجاد شكل للتجمع يحمي ويحفظ بمجموع القوة المشتركة شخص كل واحد ممتلكاته، ويظل بواسطته كل واحد، وإن اتحد مع الجميع لا يطيع سوى نفسه، ويبقى حرا بنفس الدرجة التي كان عليها سابقا. ذلك هو المشكل الأساسي الذي يقدم العقد الاجتماعي حله"(11).
أما بالنسبة للشروط التي يجب أن تتوفر، لكي يكون تعاقدا حقيقيا. فتتلخص في: أنه يجب أن يكون مختلفا في صيغته ومضمونه عن صيغة التعاقد الذي تبرمه تلك "القبضة من الناس التي تفيض بالأشياء الضرورية" مع "جمهور الجائعين الذين يفتقرون إلى ما هو ضروري". فهذا التعاقد مزيف لأنه خدعة لا تفضي إلا إلى خلق إرادة للجميع وليس الإرادة العامة. كما يجب أن يكون الذي يتعاقد هو الشعب والمتعاقد معه هو الشعب نفسه. إن المتعاقدين يجب أن يكونوا هم أبناء الشعب ذاته. إنه تعاقد لا يقتضي أطرافا كثيرة: أمراء، أو رؤساء، أو ملوك... من جهة، وشعب من جهة أخرى.
أما بالنسبة لمضمون هذا التعاقد، فيمكن حصره في ما يلي، بإيجاز شديد: التعاقد بين أبناء الشعب يكون حول خلق "قوة مشتركة" تستمد من فعل التعاقد نفسه وحدتها، وأناها المشتركة، حياتها وإرادتها. وهذه القوة هي "ذلك الشخص العمومي الذي يتكون على هذا النحو باتحاد الأشخاص" (12). والذي يتخذ مجموعة من الأسماء تختلف باختلاف الزاوية التي ينظر إليه منها. فهو: جمهورية – République، جسد سياسي- un corps politique، دولة- Etat، سيادة- souverainté، قوة- puissance – وهذه القوة المشتركة، ليست سوى تعبير عن "إرادة الشعب" أي "الإرادة العامة" أو السيادة. وقوامها: مجموعة من البنود المحددة بطبيعة فعل التعاقد نفسه. غير أن إدراك هذه البنود في حقيقتها وفي معناها العام يمكن من إرجاعها إلى بند واحد هو: "أن يتنازل كل مشارك كليا عن شخصه، وعن كل حقوقه لفائدة المجموعة (...) ويضع كل واحد منا شخصه وكل قوته تحت سامي قيادة الإرادة العامة، ونتقبل كجسد واحد كل عضو ضمننا كجزء لا يتجزأ من الكل" (12).
إن التنازل عند روسو، لا يفقد الإنسان الفرد حريته، وكل ما يمكن أن يشتق منها، كصفة المواطنة وإرادته الخاصة،... بل هو تأكيد وترسيخ لكل هذا في إطار "القوة المشتركة" التي شارك في صياغتها في البداية، والمحمية بقوة القانون. التنازل هنا هو اختيار للحرية الأخلاقية الموسومة بطابع الوعي والمسؤولية والإرادة. وما دام الأمر كذلك، فمن حق "الجسد السياسي"، أو "السيادة"، أن "تحمل قسرا على الانصياع لإرادة العامة أيا يرفض الانصياع عن طواعية، ولا يعني هذا سوى إجباره أن يكون حرا، لأن ذاك هو الشرط الذي يضمن للمواطن حمايته من كل تبعية شخصية. وهو الذي يكمن وراء سير الآلة السياسية ويجعل الالتزامات المدنية شرعية، بينما تكون لا معقولة واستبدادية وقابلة لأشنع التجاوزات"(13).
غير أن "السيادة" من جانبها "لا تستطيع أن تثقل كاهل الرعايا بأي قيد لا يعود بالنفع على المجموعة. إنها لا تستطيع حتى أن تريد ذلك، فلا شيء يتأتى من غير موجب في ظل سيادة العقل"(14) .
للرعايا إذن، تجاه "السيادة" حقوق وواجبات، وللسيادة تجاههم أوامر والتزامات، لكن : كيف سترتب هذه العلاقة بحيث يحتفظ فعل التعاقد على صيغته الحقيقية ومستوفيا لشروط التعاقد الصحيح؟ ومن سيقوم بتدبير عملية تنظيم العلاقة هذه؟
إن العلاقة بين الشعب و "السيادة" (التي ليست إلا الشعب ذاته)، لا يمكن أن تستقيم إلا باحترام القوانين والتشريعات المدنية، والذي سيسن هذه الأخيرة هو المشرع.
أ- في القانون والمشرع Du droit et le législateur
في الفصل السادس، من الكتاب، من مؤلف "العقد" ينبه روسو، إلى أن ما قمنا به حتى الآن، لا يتجاوز تحديد صيغة" فعل التعاقد"، وبالتالي منح الوجود والحياة لـ "الجسد السياسي". والتوقف عند هذه النقطة في نظره، معناه أننا لم نفعل أي شيء. لماذا؟ لأن ما يهم ليس خلق "الجسد" السياسي" (أو "الدولة")، بل منحه الحركة والإرادة.
لكن بأي معنى تعطى الحركة للجسد السياسي؟
إنها لا تمنح له، حسب روسو، إلا بالتشريع وسن القوانين، وتفعيلها.
لكن: ما هي القوانين؟
إنها، حسب روسو، أفعال الإرادة العامة ونشاطاتها. إنها "سجل" ترتسم فيه إرادة الشعب" أو "بيان لتلك الإرادة".
لكن، إذا كانت كذلك: فمن سيسنها؟ من هو المشرع؟
حسب روسو، مادامت القوانين ليست إلا "شروطا للتجمع المدني"، أي ما ينبغي أن يكون عليه هذا الأخير بموجب فعل التعاقد، ومادام الذي يتعاقد هو الشعب، فإنه وهو المطالب بالخضوع لتلك القوانين، يبقى الوحيد الذي من حقه وضعها.
لكن، كيف يتسنى للشعب وضعها وضبطها؟ أيحصل ذلك الإجماع وبضرب من الإلهام الفجائي؟ وأكثر من هذا: هل للشعب من الخصائص ما يؤهله للقيام بهذه المهمة الصعبة؟.
إن هذا هو السؤال الذي يطرحه روسو في هذه الصيغة: "كيف يمكن لجموع عمياء لا تعرف غالبا ما تريد، لأنها نادرا ما تعرف ما هو خير لها، أن تنفذ من تلقاء نفسها مشروعا في عظمة وعسر نظام تشريعي؟"(15). وهو نفسه السؤال الذي يجيب عنه بالنفي مؤكدا: "أن الشعب يريد الخير دوما من تلقاء نفسه، لكنه لا يتبينه من تلقاء نفسه دوما (...) والإرادة العامة دائما قويمة، لكن الحكم الذي يقودها ليس دائما بالحكم النير"(15).
ما العمل إذن، إذا لم يكن الشعب، وهو المتعاقد مع نفسه، مؤهلا لوضع القوانين التي تمنح الحركة للجسد السياسي ؟
من الضروري، يجيب روسو، إيجاد قوة، مهمتها تبصير الشعب أو الإرادة العامة "بالأشياء، كما هي وأحيانا كما يجب أن تبدو لها، وهديها إلى الطريق الصحيح الذي تبحث عنه، ووقايتها من غواية الأهواء الخاصة، وتقريب الأمكنة والأزمنة إلى عينها، ودفعها إلى موازنة الفوائد الآتية والمحسوسة الجذابة بعواقب الغد البعيد الخفية." (15)
لكن من تكون هذه القوة؟
إنها: المشرع حسب روسو.
لكن: ما موقع هذا المشرع ضمن هذا الكل المتعاقد مع ذاته؟ هل هو جزء من الشعب (نخبته مثلا)؟ أم ما ذا؟ وأية علاقة يمكن أن تربطه بالجسد السياسي؟ هل هو أداة فقط، مهمتها تشريع القوانين؟ أم هو طرف آخر مقابل للجسد السياسي؟ وعلى أية صورة يمكن أن يكون؟ وأية شروط يجب أن تتوفر فيه؟.
أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في هذا المشرع، حسب روسو، أن يكون فطنا فائق الذكاء، مطلعا على أهواء الشعب الذي يريد أن يشرع له، دون أن تعرف تلك الأهواء إليه سبيلا، وأن لا تكون له أية صلة بطبيعتها، وإن كان يعرف أعماقها، وتكون سعادته غير مرتبطة بالشعب، وإن تعلقت همته بتحقيقها لذلك الشعب.
أما بخصوص موقعه من الكل الهائل المشيد بفعل التعاقد فيقول روسو: "إن المشرع، من كل وجوه النظر، إنسان خارق للعادة، داخل الدولة، وإن كان ذلك من حيث العبقرية، فهو كذلك أيضا، وبما لا يقل درجة عن الوجه الأول من حيث الوظيفة. فليست هي بالقضاء ولا كذلك بالسيادة.
إن المشرع، حسب روسو، لا يمت بأية صلة إلى دولة التعاقد، لكن هذا لا يعني أنه منعزل عنها تمام الانعزال، كما أنه لا يعني أنه يوجد "فوقها"، بل فقط، يعني: أنه ليس سيدا ولا حاكما أو قاضيا. إن مهمته ليست قيادة الشعب الذي شرع له، بل فقط سن القوانين. إنه المانح للحركة إلى الدولة دون أن يشكل جزءا منها.
هل ذللت كل الصعاب؟ لا أبدا. إن هناك مشكلا آخر يطرح نفسه: يتمثل في كيف يستطيع المشرع إقناع جمهور الشعب بالقوانين التي سنها، علما أنه لم يُناد به، إلا لأن هذا الشعب "جموع عمياء"؟. يقول روسو: " ثمة صعوبة تستحق الانتباه، هي أن الحكماء الذين يريدون مخاطبة السوقة بلغتهم لا بلغة هؤلاء، لا يستطيعون تبليغ أفكارهم إليهم. والحال أن هناك آلافا من الأفكار التي تستحيل ترجمتها إلى لغة الشعب. فالاعتبارات المسرفة في العمومية، والمقاصد المفرطة في البعد عن المشاغل الآنية تستعصي على إدراكه. فكل فرد لا يرضى بخطة حكم غير الخطة التي تخدم مصلحته الخاصة."(17)، وهي نفسها الصعوبة التي سيؤكد بأن حلها يكمن في ضرورة أن يلجأ هذا المشرع إلى "سلطة من نوع آخر، تستطيع أن تجر دون عنف، أو تستميل دون إقناع" (17).
لكن: من تكون هذه السلطة؟
إنها، يقول روسو، سلطة السماء، التي أكد التاريخ صلاحيتها وإجرائيتها في مثل هذا الموقف.
لكن هل ذللت كل الصعاب؟ ، ها هو الجسد السياسي فد منح الحياة بفعل التعاقد. وها هي العلاقات بين هذا الجسد وكل فرد داخله، قد رتبت بفضل وجود قوانين شرعها مشرع فريد من نوعه: فمن سيسهر على تفعيل القوانين وتنفيذها؟ هل الإدارة العامة؟ هل السيادة ذاتها؟ هل المشرع ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة جد حاسمة في نظر روسو، فإما أن تقود إلى الحفاظ على الجسد السياسي الناشئ بفعل التعاقد، وإما أن تقود إلى هدمه كلية، فيتبين في الأخير: أن مثل هذا التعاقد الذي أريد له أن يكون حقيقيا غير مزيفا، مستحيل في دنيا الناس وعلى هذه الأرض! وما يجعل تلك الإجابة حاسمة بهذا الشكل، في نظر روسو، اعتباران أساسيان:
• إن الإدارة العامة أو السيادة، غير قابلة للتجزيء: وفي هذه الحالة لا معنى لخلق هيئة أخرى يعهد إليها بتنفيذ القوانين.
• أن الإرادة العامة أو السيادة، غير قابلة للتفويت: لأن ذلك يتناقض وروح فعل التعاقد. إن المتعاقد طرف واحد وليس أطرافا: هو الشعب.
هكذا، سوف لن يكون من سيسهر على تنفيذ القوانين هو "السلطة التنفيذية" كما يسميها الآخرون. لماذا؟ لأن عيب فلاسفة السياسة في نظر روسو يكمن بالضبط في هذه النقطة، إذ بعد أن "قصروا عن تجزئة السيادة في مبدئها، عمدوا إلى تجزئتها في موضوعها (...) إلى قوة وإرادة، إلى سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية، إلى حق جبائي وقضائي وحربي، إلى إدارة محلية وإلى سلطة تعنى بالتفاوض مع الخارج". وهو ما أفضى بهم إلى أن جعلوا من "السيادة كائنا غريبا ومؤلفا من قطع ألصقت الواحدة منها بالأخرى". بشطارة لا تليق إلى بمهرجي الأسواق" و "بمشعوذي اليابان الذين يمزقون الطفل أشلاء أمام أعين الناس المتفرجين، ثم يرمون بالأعضاء الواحد تلو الآخر في الهواء، فإذا الطفل ينتصب حيا متجمع الأعضاء"(18).
إن من سيسهر على تفعيل القوانين وتنفيذها حسب روسو، هو: الحكومة.
ب- في الحكومـــة:Du Gouvernement
يكتسي الحديث عن هذه الحكومة عند روسو، طابعا خاصا، لما يثيره وجودها داخل كلّْ أريد له منذ البداية أن يكون موحدا ومتوحدا مع ذاته، من إشكالات، هي التي حذت بروسو نفسه إلى أن ينبه القارئ على ضرورة اليقظة وهو يقرأ الفصل المخصص للحكومة من مؤلف "العقد" كأطول فصل من فصوله وأعقدها.
هكذا نجده، يشرع منذ البداية، في تعريف هذه الحكومة قائلا: "إنها هيئة تتوسط الرعايا والسيادة، وتحقق اتصالا متبادلا بينهما، ويوكل إليها تنفيذ القوانين، والحفاظ على الحرية المدنية والسياسية على السواء.". وهو نفس التعريف الذي يكرر بتعابير مختلفة على امتداد ذلك الفصل: فتارة يسميها "إنابة يمارس أعضاؤها، في نطاقها ومن خلالها كأعوان للسيادة، السلطة التي عهدت بها هذه الأخيرة إليهم، والتي بإمكانها الحد منها أو تحويلها واسترجاعها منهم متى طاب لها أن تفعل"، وتارة يسميها "الإدارة العليا" أو "الممارسة الشرعية للسلطة التنفيذية" فيدعو أميرا، أو قاضيا، أو ملكا، الشخص أو الهيئة المكلفة بهذه الإدارة، وتارة ثالثة يسميها: "عونا خاصا يجمع السلطة العمومية ويمارسها، حسب اتجاهات الإدارة العامة"، وفي أغلب الأحيان، يكتفي بالإشارة إليها كـ "قوى وسيطة تمر علاقة الكل بالكل، أو السيادة بالدولة، من خلال علاقتها بكليهما"(19).
لكن رغم هذه التعاريف، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تتشكل هذه الحكومة؟ ومن يتولى تشكيلها؟ وما طبيعتها وجوهرها؟.
عن السؤال الأول، يجيب روسو بشكل غامض: إن الحكومة لم تأسس بمقتضى "عقد". مستبعدا بحزم كل فرضية تقول بأن ميثاقا لـ "الخضوع" قد تلا منطقيا "التعاقد الإجمالي" ومؤكدا أن أعضاءها ليسوا إلا "موظفي" الشعب وخدامه أو مندوبيه، وليسوا أبدا سادته. وبهذا يكون قد تفادى تناقضا كاد يسقط فيه: إذ أكد في غير موضع أنه: "لا يوجد في الدولة إلا عقد واحد، هو عقد التجمع، وهذا العقد يكفي بمفرده لقطع السبيل أمام كل عقد آخر، ويستحيل تصور أي عقد آخر عمومي لا يكون انتهاكا للأول"(20).
أما عن السؤال الثاني، فيجيب روسو، بأن الحكومة لا يمكن أن نعتبرها مستقلة عن السيادة. فهي لا تتمتع ب "أنا خاصة" تعمل في مقابل "الأنا المشتركة" التي للسيادة أو الإرادة العامة، بل هي تمارس مهمتها، وهي تابعة للسيادة، منفعلة وليست فاعلة. إن حياتها "مستعارة" ولم توجد قط من تلقاء نفسها.
حتى هنا يبدو، وكأن كل شيء قد تم على أحسن ما يرام: لقد تم فعل التعاقد الاجتماعي الحقيقي بين أبناء الشعب، كما تم إيجاد من يشرع لهم القوانين من غير الإخلال بروح فعل التعاقد وصيغته، كما تم إيجاد من ينفذها حفاظا على كل ما سبق. لكن: ما الضامن للسيادة أو الإرادة العامة بأنها ستبقى محمية بشكل كاف من تجاوزات المشرع؟ وتطاولات الحكومة؟ وعبث الأقدار والزمان؟...
الظاهر أن روسو، لم يقتنع بأن هذا البنيان متماسك بما فيه الكفاية. وإذن فلابد من دعامة أخرى. دعامة من نوع خاص: إنها دعامة الدين. لكن، ليست أي دين. بل الدين المدني.
3- مفهوم "الدين المدني" La Religion civile
ما مضمون هذا "الدين المدني" عند روسو؟ وما وظيفته؟ أو لا يعد وأن يكون إقحاما غيَّر القاعدة التي أقام عليها روسو دولته؟ وضربا من المفارقات يصعب استيعابها؟ وبديلا مضادا لكل ما "ناضل" من أجله زملاؤه: فصل الدين عن الدولة؟
إن الدين المدني، في نظر روسو، ليس شيئا غربيا عن هذا الكل الناشئ عن فعل التقاعد، بل هو شيء طبيعي تماما. إنه السلطة التي ستوفر للمشرع حين يسن القوانين، جر الرعايا لقبولها والاعتقاد في صلاحيتها دون عنف، واستمالتهم دون إقناع أو استدلال، طالما أن الرعايا تفتقر إلى تبين فوائد الأمور على المدى البعيد، وتتوطد في الآني واللحظي. وما دام كذلك، فإن جعله من أركان الدولة، لا يعني حسب روسو أن "السياسة والدين موضوع مشترك ومرامي واحدة، إنما ينبغي أن يصبح هذا أداة لتلك عند نشأة الأمم" (21).
إن الدين المدني إذا، هو ذاك الذي يتمتع بقيمة سياسية، وتكون وظيفته: دعم وحفظ الجسد السياسي المنبثق عن فعل التعاقد. وبما هو كذلك، فليس هو أحد الأديان الموجودة حتى عصره: دين الإنسان، دين المواطن، ودين الكهنة.
- أما بالنسبة لدين الإنسان، فهو في نظر روسو، دين الإنجيل، أو "دين الحق الإلهي الطبيعي"، الذي لا يعتمد على المذابح والمعابد، بل يمارس بدون طقوس، وينحصر في العبادة الداخلية الصرفة للرب، وفي الواجبات الأخلاقية.
- أما بالنسبة لدين المواطن، فهو في نظره: "دين الحق الإلهي المدني أو الوضعي"، وهو أديان الشعوب التي عاشت قبل المسيحية والمتبع كل منها في بلاد بعينها، ويمارس بواسطة طقوس وشعائر تنص عليها القوانين.
- أما بالنسبة لدين الكهنة، فنموذجه حسب روسو، هو المسيحية الرومانية، ودين الصينيين واليابانيين.
إن كل هذه الأديان في نظر روسو لا قيمة لها، لأنها تفتقر إلى هذه القيمة السياسية التي تحتاجها دولة "العقد الاجتماعي"، إذ لكل واحد عيوبه: ذلك أن دين الكهنة يمنح البشر شريعتين ورئيسين ووطنين، ويفرض عليهم واجبات متناقضة، ويمنعهم من أن يكونوا عبادا ورعين ومواطنين صالحين، ولأن دين المواطن، وإن كان يجمع بين الدعوة إلى عبادة الرب وحب القوانين وتقديس الوطن والموت من أجله، وخدمة الدولة باعتبارها خدمة للرب، ففي هذا يكمن عيبه: لأنه مؤسس على الكذب والتحريف وقائم على مجموعة من الطقوس الجوفاء وحامل لمبدإ اللاتسامح طالما يحمل معتنقه على الإيمان بضرورة القتال في سبيل الرب. ولأن دين الإنسان أخيرا، وإن جعل البشر إخوة كونهم أبناء إله واحد، فهو مع ذلك مفرط في الروحانية المنافية للروح الاجتماعية.
فمن وجهة نظر سياسية إذا، كما يقول روسو، يجب التخلي عن كل هذه الأديان وطرحها: لأنها أديان لن تستطيع حماية الجسد السياسي وتوحيده وصيانته من مخاطر اغتصاب الحكم وإساءة استعماله، كما يجب سن دين جديد، يكون نافعا في حياة الدولة، مدعما لوحدة بنيانها وقوتها، دين يربط المواطن بالدولة دون أن يكون قوميا كالأديان القديمة، ويربطها بالألوهة، دون أن يتدخل في قضية مصيره بعد الموت. يقول روسو: "... إن الحق الذي يمنحه الميثاق الاجتماعي للسيادة على الرعايا، لا يتجاوز كما قلت حدود المنفعة العمومية. فالسيادة لا تحاسب الرعايا على أفكارهم، إلا بشرط أن تكون هذه الأفكار ذات أهمية بالنسبة إلى المجموعة. والحال أن الدولة يهمها بالتأكيد أن يكون لكل مواطن دين يحبب إليه واجباته: غير أن تعاليم هذا الدين لا تهم الدولة، ولا أعضاءها إلا بقدر ما تتعلق بالأخلاق والواجبات التي يكون معتنق هذا الدين مطالبا بها نحو الآخرين. ولكل أن يعتنق فيما عدا ذلك، ما طاب له من الأفكار دون أن يكون من حق السيادة الاطلاع عليها.
(...) ثمة إذا، عقيدة مدنية بحثة يطالب المواطنون بالجهر بها، ويتعين على السيادة أن تضبط بنودها، لا بصفتها معتقدات دينية، وإنما بصفتها مشاعر تنم عن روح اجتماعية، يستحيل بدونها أن يكون المرء مواطنا صالحا، أو رعية وفية للدولة. ويحق للسيادة إقصاء كل من لا يعتنقها، وإن لم يكن في إمكانها إكراه أحد على اعتناقها، فهي تقصيه لا بصفته كافرا إنما بصفته معاديا للروح الاجتماعية، وعاجزا عن حب القوانين والعدالة حبا صادقا، وعن التضحية بحياته لدى اقتضاء الحاجة استجابة لنداء الواجب. وإذا وجد من يتصرف بخلاف هذه المعتقدات التي سبق أن اعترف بها على رؤوس الملأ، فليكن له الموت عقابا: فقد ارتكب أبشع الجرائم، ألا وهي: شهادة الزور أمام القانون.
وينبغي أن تكون أركان الدين المدني بسيطة، قليلة العدد، وأن يكون نصها دقيقا لا يحتمل تفاسير ولا تعاليق. وتتلخص هذه المعتقدات الوضعية في: الإيمان بوجود رب قدير عاقل، كريم، عليم، مدبر; بوجود حياة بعد الموت يلقى فيها الأبرار النعيم، ويلقى فيها الأشرار العقاب ; وبقدسية العقد الاجتماعي والقوانين. أما المعتقدات السلبية، فإني أحصرها في واحد: التعصب، وهو ركن تشترك فيه الديانات التي رفضناها."(22)
تلك هي نظرية روسو السياسية ، على الأقل في خطوطها العريضة . أو تلك هي كما يحلو له هو نفسه أن يقول : " المبادئ الصحيحة التي ينبني عليها الحق السياسي ." فهل جاءت من وجهة النظر الفلسفية والسياسية مقنعة ؟ هل تحمل داخلها عناصر تجعلها ضرورية وممكنة التحقق على أرض الواقع ؟ أم لا تعدو أن تكون " قواعد عامة " و " مبادئ مطلقة " منبثقة أساسا من التفكير في " طبائع الأشياء " و " قوانين العقل " ؟
لا جدال في أن مضمون هذه الأسئلة يصب في محاولة تقويم نظرية روسو السياسية، لكن لا جدال كذلك في أن الاكتفاء بهذه العناصر المقدمة من أجل إجراء هذا التقويم سيكون غير موضوعي، لاعتبارات منها :
• أولا ، لأن هذه النظرية ، في ضوء هذه العناصر المقدمة، ليست كاملة: فقد كانت كما تخبرنا نهاية مؤلف " العقد" ستطال قضايا كثيرة، وليس فقط ما يتعلق بحالة الطبيعة، التعاقد الاجتماعي، والدين المدني وما استتبع ذلك من مشاكل على مستوى التشريع والقوانين والحكومة. لقد كانت ستطال أيضا علاقات السيادة بدول أخرى وما يستتبع ذلك من حقوق للأشخاص والتجارة وحق الحرب والغزو، والحق العمومي والأحلاف والمفاوضات والمعاهدات ...الخ. وقد كان هذا هو حلم روسو الذي اعتبره "موضوعا جديدا وواسعا " ، قصر نظره عن الإلمام به وتجاوز قدراته فلم يتحقق .(23)
• وثانيا، لأن حتى هذه الصيغة " غير المكتملة " كافية بأن تبين مدى جدتها وأصالتها ومساهمتها الكبيرة في إرساء دعائم الحداثة السياسة في أوروبا القرن الثامن عشر على الأقل: بمفاهيمها واقتراحاتها، بتصوراتها وحلولها الجريئة لمعضلة " الحق السياسي"، وبمجادلاتها وانتقاداتها للنظريات السياسية الرائجة قبله وفي زمنه، خصوصا نظرية " الحق الإلــهي"، نظرية " الحق الطبيعي "، ونظرية " الاستبداد السياسي " .
الإحالات المرجعية
1- ج.ج روسو: "أصل التفاوت بين البشر". ترجمة: بولس غانم. بيروت 1972، ص: 26.
2- ف. فولغين : "فلسفة الأنوار" ترجمة : هنرييت عبودي. ص: 198.
* بخصوص "خطاب حول أصل التفاوت بين الناس" تم الاعتماد على الترجمة العربية لبولس غانم. بيروت 1972. أما بخصوص "في العقد الاجتماعي" فقد تم اعتماد الأصل الفرنسي في الإحالة، والترجمة لكل من علي الأجنف، والأجلاصي، تونس 1980، اللذين ترجماه ترجمة جميلة مقارنة مع باقي الترجمات الأخرى.
3- ج.ج روسو: "أصل التفاوت..." ص: 56
4- نفس المرجع. ص : 80-81.
5- نفس المرجع. ص: 81-82
6- نفس المرجع. ص: 88
7- نفس المرجع. ص: 79
8- نفس المرجع. ص: 75
9- نفس المرجع. ص: 96
10- نفس المرجع. ص: 112
11- J.J Rousseau : « Du contrat social » Flammarion. Paris 2001. I- VI. P :56.
12- Ibid. P :57.
13- Ibid , I- VII. P : 60.
14- Ibid, II- IV. P : 70.
15- Ibid, II- VI. P : 78.
16- Ibid, II- VII. P :80.
17- Ibid, II- VII. P :81-82.
18- Ibid, II- VII. P :67.
19- Ibid, III- I- P : 96-97.
20- Ibid, III- XVI. P :137-138.
21- Ibid, II- VII. P : 83.
22- Ibid , IV- VIII, P : 177-178-179.
23- Ibid, IV-IX, P : 180.
** - إنها المسألة التي كان من المفروض تناولها في محور ثان من هذا العرض وهو ما لم يتم لاعتبارات قاهرة.