تقديــم.........................................................................................3
الفصل الأول: روح عصر الأنوار أو ايديولوجيا الأنوار...........................................8
1- من فلسفة الأنساق الى الفلسفة الشعبية........................................................12
2- من الدين المنزل الى الدين الطبيعي..........................................................13
3- من قداسة السلطة الى تعاقد المواطنين........................................................16
الفصل الثاني: نظرية روسو السياسية...........................................................18
1- مفهوم" حالة الطبيعة"........................................................................19
2- مفهوم "التعاقد الإجتماعي"....................................................................31
3- مفهوم "الدين المدني".........................................................................44
الفصل الثالث: أبعاد نظرية روسو السياسية......................................................50
1-موقع روسو ضمن إيديولوجيا الأنوار........................................................ 52
2-في الرد على أصحاب نظرية " الحق الالهي"..................................................60
3-في الرد على فقهاء" الحق الطبيعي"...........................................................68
خاتـمـة.......................................................................................79
-قائمة المراجع.................................................................................84
" كان هناك وقت كنت فيه أعتبر أن البحث عن الحقيقة وحده كان يكون شرف الانسانية، وكنت أحتقر الانسان العادي الذي لا يعرف شيئا. وقد وضعني روسو في الطريق السوي. لقد تلاشى هذا الحكم المسبق الأعمى، وتعلمت احترام الطبيعة الانسانية، واعتبرت نفسي أقل فائدة بكثير من العامل العادي جدا. إذا لم اعتبر أن فلسفتي يمكن أن تساعد البشر على إثبات حقوقهم"
E.Kant. in « J.J Rousseau et la science… »
Par Robert Derathé. P. 113.
"إن جان جاك هو الأول، ويمكن أن يكون الوحيد الذي حك السلطة حتى العظم. إن فولتير لا يساوي شيئا بجانبه، فهو لم يكن إلا رعية ساخطا كان يبحث عن ملك صالح".
Alain « Politique » p. 226. PUF. 1952.
تقديم:
كتب الكثير حول جان جاك روسو، ولا زال يكتب حوله الكثير. ومع ذلك يظل الاشكال الذي يطرحه من خلال كتاباته، واحدا من أصعب الإشكالات التي لا تزال قائمة أمام الفكر الفلسفي، وترفض أن تتحول إلى مجرد أسئلة بسيطة.
إن شخصية روسو، وكتاباته، لا تزال تصر على أن تظهر للمطلع عليها، وكأنها غريبة.أيضا وكأنها معقدة ومتناقضة، خاصة حين مقارنته بمعاصريه.
لقد خصصت لدراسته أعمال كثيرة: من طرف مؤرخي فكره، ومن طرف رجال الفلسفة والسياسة والآداب. لكن كلما تبين أن هؤلاء قد اقتربوا من رسم صورة واحدة له، تحمل طابع العصر الذي عاش فيه (الانوار)، سرعان ما تفاجئهم أسئلة جديدة، زسرعان ما تراودهم شكوك أخرى، فلا يجدون ما يصفونه به سوى أنه "فيلسوف مغاير"، "مفكر غريب" و" لا يمث لعصر الأنوار بصلة" وفي أغلب الأحيان يكتفون بالقول بأنه "عدو الأنوار"، إذ قاومها، وتصدى لكل مظاهرها ( العلوم، الفنون...) بالرغم من كونه عاش في أوجها.
تأتي هده الدراسة المتواضعة، لترمي بنفسها في فضاء هذا الإشكال لا مدعية أنها تملك مفتاحا سحريا كفيلا بحله، بل فقط كمحاولة لرسم معالم تلك الصورة التي قضت مضجع أولئك. وكمساهمة لتبيان أن روسو ليس "فيلسوفا مغايرا" ولا حتى "مفكرا غريبا". وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال عزله عن عصر الأنوار، أو تجريده من طابع هذا العصر.
تاتي هده الدراسة للقيام بذلك كله. لكن ليس بالكشف عما أسماه Ernest Cassirer. بالوحدة في إنتاجات روسو، التي تكمن في نظره في تطور أفكاره، وكيفية تشكل هذه الأخيرة عبر الزمن. بل من خلال التركيز أساسا على فلسفته السياسة. وتخصيصا وتحديدا، من خلال الكشف عن أبعاد نظريته السياسية.
إن تلك الأبعاد –حسب اعتقادنا- لاتختلف عما "ناضل" ضده فلاسفة القرن الثامن عشر، خاصة منهم الفرنسيون، إذ لا أحد يجرؤ على نكران أن روسو قد قاوم على أكثر من "جبهة" –وبكيفية أكثر قوة من معاصريه: مونتسكيو، دالمبير، فولتير، دولباخ،... وغيرهم كثير- ضد الكنيسة في شخص رجال الدين، وضد الطغاة في شخص فقهاء "الحق الطبيعي"، المروجين لفكرة الحكم المطلق، وضد الملوك في شخص أصحاب نظرية "الحق الالهي"، المروجين لفكرة التفويض الإلهي للسلطة.
ليس هذا فقط ما يثبت أن روسو هو ابن للأنوار، بل أشياء كثيرة تضمنتها نظريته. فروسو، وهو يقاوم كل أولئك، ظل مع ذلك حريصا على أن يكون متوجا للفلسفة السياسية، ومؤصلا للمعتقد البرجوازي في تلك الفترة: فترة ما قبل الثورة الفرنسية التي ستقوم بها البورجوازية، وهي تتنفس من أفكار روسو"الثورية". بل انها ستتخذ أهمها شعارا لها:"الحرية، الاخوة،المساواة".
مهمة هده الدراسة إذن، كما يبدو من خلال ما سبق، تنحصر في الكشف عن أبعاد نظرية روسو السياسية، وليس شيئا آخر، أي محتواحاها الأيديولوجي، وامتداداتها أو مضاعفاتها السياسية. وهي على ما يبدو مهمة من الصعوبة بمكان: إذ هي، من جهة، تتطلب إلماما واسعا، وقراءة متأنية لنصوص تلك النظرية. ومن جهة أخرى، تستلزم استفسار اللحظات التاريخية الحاسمة التي تشكلت فيها معظم تلك النصوص.
هي تتطلب ذلك، لأن الكشف عن أبعاد أي فكر، لا يمكن أن يتم إلا في إطار فرضية كبيرة، هي" فرضية تاريخية الفكر. هذه الأخيرة التي تؤمن بأن لا فكر فوق التاريخ أو خارجه. وفلسفة روسو السياسية، وبالتحديد نظريته السياسية لا تحيد عن هذا المنطق، ولا تشكل استثناء.
وعليه فإن الكشف عن ابعاد تلك النظرية، لا يمكن أن يتم بدون الأخذ بعين الإعتبار"روح" العصر الذي فيه نشأ روسووبين أحضانه ترعرع، أي عصر الأنوار، وكذا ما يتصل- عن قرب أو بعيد- بالحياة الشخصية لهذا المفكر. وحتى وإن ذهب بعض دارسيه الى القول بصعوبة تحديد العلاقة الجدلية بين فكره وشخصيته، وبين نظريته و"مصيره" الشخصي، لاختلاط الحدود بين هذا وذاك، ولما يكتنف ذلك من غموض ولبس، فإنه من الممكن تناوله كما هو معطى لنا في هذا الإنصهار وهذا الغموض بين"وجوده" وفكره.
من الممكن تناول روسو على تلك الشاكلة، ذلك أن نظريته السياسية ليس بأي حال من الأحوال، ترفا فكريا، أو مجرد كلام في كلام، جادت به قريحته أو مخيلته. فليس هناك في تاريخ الفكر البشري مفكرا قدم فكره بالمجان. بل إن حتى الفلسفات المثالية- والأفلاطونية على رأسها- التي تدعي أنها نسجت خارج الزمان والمكان، لا يمكن أن تفهم أو تفسر إلا داخل تلافيفهما وفي إطارهما.
ومادام الأمر كذلك، فإن بسط الحديث حول طبيعة اللحظة التاريخية التي تشكلت فيها نظرية روسو السياسية، وكذا مميزاتها وخصائصها، من جهة، وحول عناصر الجدة في تلك النظرية، من جهة أخرى، أمر ضروري. ولعل في ذلك كله ما يبرر تقسيم هذا العمل إلى الفصول الثلاثة الآتية:
-الفصل الأول: خصصناه للحديث عن عصرالانوار، أو ايديولوجيا الانوار. وفيه تم ابراز ما شهده القرن الثامن عشر، من تحولات على صعيد الأفكار والتصورات. وقد تم لنا من خلال ذلك التركيز على مستويات ثلاثة: مجال الفلسفة، مجال العقائد، ومجال السياسة، دون إغفال ما صاحب ذلك من تغيير في المجالات الأخرى. فيما يتعلق بالمجال الأول، بينا كيف أن وظيفة الفلسفة لم تعد كما كانت عليه من قبل، إذ أصبحت تنحصر في الدائرة الاجتماعية، وفي مدى مساهمتها في تحقيق سعادة الإنسان، وتحريره من الأوهام والأحكام المسبقة. وفي ما يخص المجال العقدي، فقد أبرزنا كيف أن نقلة نوعية حدثت في هذا المجال، تمثلت أساسا في ظهور مذاهب التأليه، وفي ما أصبح يتمتع به الدين الموصوف بأنه طبيعي من خطوة كبيرة، أما المجال السياسي، فقد تم فيه الحديث حول ذاك التحول الذي ظل يميز القرن الثامن عشر والمتمثل في الإنتقال من قدسية السلطة إلى السلطة باعتبارها تعاقدا اجتماعيا، أي الإنتقال من السلطة المفترض فيها أنها مستمدة من السماء، إلى السلطة المفترض فيها أنها من صنع البشر بالإتفاق والتراضي.
-الفصل الثاني: وفيه تم عرض نظرية روسو السياسية كما سطرها في كتاباته. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أننا قد اعتمدنا في العملية هاته، على مؤلفيه الشهيرين:"خطاب في أصل التفاوت بين البشرdiscours sur l’origine de l’inégalité parmis les hommes" و" في العقد الإجتماعي، أو مبادئ الحق السياسي-du contrat social ou principes du droit politique". وقد تم لنا ذلك من خلال التركيز على المفاهيم الأساسية المشكلة لتلك النظرية،أي مفهوم"حالة الطبيعة"، مفهوم" العقد الأجتماعي"،و مفهوم"الدين المدني".
-الفصل الثالث: وفيه حاولنا تفصيل القول عن أبعاد نظرية روسو السياسية، وقد تم لنا ذلك :أولا من خلال موقعة تلك النظرية، ضمن أيديولوجية الأنوار، وإبراز المعنى الذي به لا تنفصل عن تلك الايديولوجيا باعتبارها تعكس وتحقق في ذات الوقت، ذلك الانتقال من قداسة السلطة الى السلطة باعتبارها تعاقدا اجتماعيا يتم بين البشر بالتفاق والتراضي، وباعتبارها تكرس ذلك المبدإ-مبدأ التعاقد- وتعتبره الأساس الذي تنبني عليه "مبادئ الحق السياسي" او الدولة. وثانيا، من خلال الحديث عن الإنتقادات الموجهة من طرف روسو إلى كل من فقهاء " الحق الطبيعي": غروتيوس وبوفاندروف... المروجين لفكرة الحكم المطلق، وكذا أصحاب نظرية"الحق الإلهي" القائلين بالتفويض الإلهي للسلطة، وقد عنينا بهم كل من FILMER , BOUSSUET RAMSAY,. وثالثا و أخيرا من خلال بسط الحديث حول طبيعة المضمون الايديولوجيا لتلك الإنتقادات نفسها، والذي بدوره لا ينفصل عن مضمون النظرية الروسوية في مجموعها وقد تم لنا ذلك من خلال مناقشة بعض المفاهيم التي تضمنتها هذه الأخيرة وتحديدا: مفهوم" الديموقراطية"، ومفهوم" الملكية الفردية" و" المساواة".
روح عصر الانوار أيديولوجيا الانوار
"لقد كانت البورجوازية في ظل النظام القديم غنية وقوية، وإن كانت متاخرة عن النبالة والإكليروس، فكانت تشتري، وتحفز الأعمال الادبية والفنية التي تترجم إرادتها في التحرر والإنعتاق".
"بليخانوف-مجلة الهدف ع815-86"
"متذ زمن النهضة والإصلاح الذي خلق شروطا ثقافية في صالح البورجوازية في النظام الإقطاعي، وحتى زمن الثورة الذي نقل السلطة الى البورجوازية (في فرنسا)، مرت ثلاث قرون نمت فيها قوى البورجوازية المادية والثقافية"
"تروتسكي-مجلة الهدف ع815-86"
"... لم تتطور البورجوازية فقظ ماديا في داخل المجتمع الإقطاعي... ولكنها كسبت المثقفين أيضا إلى جانبها وخلقت أساس ثقافتها الخاصة بها(مدارس، جامعات، أكاديميات، صحف، مجلات...)، قبل زمن طويل من امتلاكها السلطة) "
تروتسكي- مجلة الهدف ع815-86"
يعتبر القرن الثامن عشر، من اللحظات التاريخية الحاسمة في تاريخ أوروبا على كافة المستويات : ففيه من جهة، تكسرت- وبشكل ملحوظ- صورة العالم القديم التي رسختها الفيودالية والكنيسة جنبا إلى جنب، في أذهان الناس ووجدانهم طيلة قرون طويلة. وفيه من جهة أخرى، نحتت البورجوازية الصاعدة بفرشاتها الذكية هويتها الثقافية، ووضعت بالتالي اللمسات الأخيرة على صرح ايديولوجيتها.
إن ايديولوجيا تلك الطبقة الصاعدة، ليست إلا الايديولوجيا الأنوارية، التي يحتل الحديث عنها في جل الكتابات التي تمت حول ذلك القرن، والغزيرة والمتنوعة معا، مكانة بارزة ومتميزة. والتي إن اختلف اسمها من بلد إلى آخر: بالفرنسية les lumières ،بالإنجليزيةEnlightement ،بالإيطالية Illuminismo ،بالألمانية Aufklarung،وبالإسبانية Lasluces... يظل مضمونها ومحتواها، وبعدها إن شئنا القول، واحدا في كل تلك البلدان. إن المقصود منها في كل الاحوال هو" عكس الظل والظلام، عكس الظلمات التي كان الفكر الاعمى يغطس فيها، فريسة للجهل...والخرافة" ، أو بعبارة أكثر وضوحا" نظام المعتقدات الجديد، الذي تعرفه الكلمات الأساسية الجديدة: العقل، الفرد، الطبيعة، السعادة... أو البطاقات المجردة التي أضفت عليها الطموحات المهيمنة في ذلك القرن قيمة شبه صوفية و أثقلتها بالمعاني"
إن الايديولوجيا الأنوارية، ليست –كما يقول بول هازار-سوى"إحدى المناورات الكبرى التي قامت بها الفلسفة في القرن الثامن عشر" بل "حملة صليبية حقيقية دبرتها تلك الفلسفة.حملة موجهة أساسا- من خلال المراوغات و الأقنعة، والحذر، والمكر والأسلوب البارع في لإنتقال من موضوع لآخر، والسذاجة المزيفة المعوضة للجرأة الواضحة- ضد العدو الذي يجمع اسمه فقط ويلخص كل بواعث الكراهية: ألا وهو الكنيسة..."
لقد أدانت هذه الايديولوجيا، بوجودها، ولو في حدود، للثورة الفكرية والعلمية التي دشنها العلماء، والفلاسفة في القرون السابقة وتخصيصا وتحديدا في القرن السابع عشر: أي لعصر كوبرنيك وغاليلي وكيبلر ونيوتن... ولعصر ديكارت ولابنتز وسبينوزا. فهؤلاء كلهم هم الأوائل الذين حاولوا –كل حسب طريقته- زعزعة صورة الكون والعالم، وصورة الإنسان والحقيقة... التي ظلت سارية المفعول حتى تلك اللحظة.
إن ما انبتق عن الاكتشافات العلمية الكبرى كان في الواقع ضربا من الايمان الجديد في قدرات الفكر البشري، وفي قدرات "العقل" كوسيلة للمعرفة ومصدر لها على السواء. كان نوعا من النظرة النقدية الجديدة للأمور، محورها ضرورة البرهان والملاحظة.
فما حدث في ذلك القرن –السابع عشر- كان بمثابة رؤية جديدة تقوض دعائم الموروث، وتنال في نظر الكنيسة ورجال الدين كافة، من مكانة المؤسسات التي كانت تبرر وجودها بالتذرع إلى الماضي، وبالتراث، وبالوضع الاجتماعي المتعارف عليه، وبالعرف أو كذلك بالرجوع إلى حكمة الأجداد.
لقد "كان كوبرنيك وغيره من علماء الفلك الكبار، مسؤولين عن حدوث ذلك التغيير، مثلما كان غيرهم من الفيزيائيين، والمفكرين العظام" . إن الباحث أو الدارس لتلك اللحظة التاريخية ليستطيعن "أن يرصد قائمة طويلة من الأسماء التي تلتمع مثل الشهب، والتي تحكم بإدانة أزمنة العصور الوسطى، وتقضي عليها بالذهاب إلى غير رجعة" . إن هذا الباحث سيتبين عند هذه الكوكبة من المبدعين الأفذاد وعيا حادا بقيمة ما يقومون به: وعيهم بأنهم بصدد تشييد عالم جديد، وخلق إنسان جديد، فيما هم يؤسسون قواعد علم جديد: لغته الرياضيات، ومبدؤه العقل، وهدفه السيطرة على الطبيعة، وقيمه العليا هي الحرية، والعقل، والتقدم" .
إن تطور العلوم والفلسفة خاصة في القرن السابع عشر على أيدي أولئك، إن هذا التطور –إلى جانب عوامل أخرى تتعلق أساسا باكتشاف العالم الجديد بكل مضاعفاته...- قد ولد بالفعل في القرن الثامن عشر، في عقل الانسان الاوربي هيجانا، وحماسة مصحوبين في أغلب الأحيان بقلق حاد وتوتر عنيف. وبفضل ذلك كله انطلق راكبا مغامرة الفكر، وكأنه نهر جارف يهد الرموس وكل الحواجز والسدود. إن الحواجز والسدود هنا ليست سوى الارث الوسيطي بكل ألوانه وأنواعه، من مبادئ العلوم التي تعتبر بديهية إلى أسس المقدسات، من الميتافيزيقا الأرسطية إلى جدالات التيولوجين المدرسية، من القانون الطبيعي إلى قوانين الأمم التعسفية. من حقوق الأمراء المطلقة إلى حقوق الشعوب المهضومة... بكلمة واحدة: من المسائل التي تخص الانسان كثيرا إلى تلك التي لا تهمه إلا قليلا: كل شيء تعرض للبث، للتحليل، وللزحزحة على الأقل.
لكننا لا نريد أن نرصد معنى هذا التحول في الوقوف عند كل تلك المستويات، التي أبدع فيها مفكرو الانوار، أيما إبداع، لا نريد أن نتبين الاتجاه الجديد الذي ستأخذه الفلسفة أو العلوم... وما إليهما، في حيثياته وجزئياته. بل سنتوقف قليلا عند، ما نعتبره متصلا بموضوعنا فقط، لأن ما أفرزه القرن الثامن عشر كثير للغاية، ويصعب اختزاله في بضع صفحات:
1- من فلسفة الانساق إلى الفلسفة الشعبية:
حقا إن القرن الثامن عشر نتيجة لما اختمر منذ القرن السابع عشر، كما هذا الاخير وليد لما تم إنجازه في القرنين السابقين عليه، أي منذ زمن الاصلاح. لكن هذا لا يعني أن مفكري الانوار قد أخذو فيما أثاره فلاسفة القرن السابع عشر (ديكارت، لاينز، سبينوزا... وغيرهم كثير) حول "العقل" كمقولة ميتافيزيقية محضة... أو شيئا من هذا القبيل، بل إنهم سيطالبون بضرورة إعادة المعرفة الفلسفية إلى الدائرة الاجتماعية، التي لم يعد باستطاعتها أن تنفتح أو تشع خارجها: لقد أصبحت فكرة "الفلسفة الشعبية La philosophie populaire " في القرن الثامن عشر فكرة عزيزة في أغلب البلدان، وبالخصوص في ألمانيا وفرنسا. إذ فيهما ستتردد هذه الكلمة "نريد فلسفة اجتماعية، نريد علما اجتماعيا" على أكثر من لسان: في ألمانيا سيضع كانط شروطا للمعرفة، بل حدودا لما يمكن للعقل الانساني أن يصله، وفي فرنسا سيطالب Diderot –وبإلحاح-بضرورة تقريب الشعب من النقطة التي يوجدفيها الفلاسفة كشرط لتقدم هؤلاء الأخيرين:
« hatons nous de rendre la philosophie populaire. Si nous voulons que les philosophes marchent en avant, approchons le peuple du point ou en sont les philosophes. diront-ils qu’il est des ouvrages qu’ on ne mettra jamais à la portée du commun des esprits ?s’ils le disent ils montrerons seulement qu’ils ignorent ce que peuvent la bonne méthode et la longue habitude » .
النقطة التي يوجد فيها الفلاسفة، إنها ليست قطعا البحث العقيم عن المجهول، ولا السعي وراء الميتافيزقيا البالية، التي لم تكن- حسب تعبيرCondillac - -هي الميتافيزقيا الجيدة. إنها بالضبط" جرد ما هو معلوم، المعلوم المرتب عقلانيا"
إنها الإعتبارات التي ستحمل مفكري الأنوار على رفض تسميتهم ب"الفلاسفة". وحتى الذين قبلوا ذلك ليس إلا بالمعنى الخاص الذي تعنيه الكلمة في ذلك العصر. ذلك انه لم يكن هناك في الحقيقة ، من شئ غريب أكثر من التجرد "الفلسفي" أو الرصانة "الفلسفية". لقد كان التأمل أقل ما كانوا يقومون به . ولذلك سيلاحظ في أغلب الكتابات التي تناولتهم بالدراسة أن الذي يتحدث عنهم يرفض إعطاءهم صفة "الفلاسفة" ولا يخصهم بالضبط إلا بصفة "الادباء" وعند الضرورة " الادباء الفلسفيين". لقد كان الأديب في القرن السابع عشر يميز بعناية عن الفيلسوف ، وكان " العقل الفلسفي" يعتبر نوعا من التخصص الفريد في نوعه . إلا أن أديب عصر الأنوار ، يستحق –على حد تعبير فولتير- أفضل من هذا اللقب "لأن عقلا عميقا وصافيا يطبع مناقشاته ، ولأن روحا فلسفية حقيقية تكون على ما يبدو طبعه"
إن "الفلاسفة"في عصر الأنوار سيوصفون بأنهم مفكرون أو مفكرون "ملتزمون": فهم يعتزمون التأثير في هذا العالم، ويريدون أن يكونوا حاضرين فيه للحد الأقصى، وأن يعملوا فيه باسم العقل من أجل تحقيق أكبر فائدة لأمثالهم من البشر. " إن لديهم اعتقادا راسخا يحركهم بقوة، ويتمثل في أن لهم قدرا خاصا: هو القدر الذي تلخصه عبارة Lessing : تربية الجنس البشري"
2- من الدين المنزل إلى الدين الطبيعي:
لعدة قرون درجت الكنيسة على اعتبار نفسها "إلها فانيا" يتوجب على الإنسان أن يدين له في ظل "الإله الخالد"، كما درجت على اعتبار نفسها مالكة للحقائق وموزعة لها على السواء، وصاحبة الحق الأكبرفي التحكم في الأرواح والنفوس، بارشادها" سواء السبيل" لكن في القرن الثامن عشرستتعرض كل هذه الأفكار للطعن والنقد، لا لأنها غير مفيدة، بل لأنها خاطئة في أساسها، وكونها من قبيل السخافات الزائدة التي تقضي على كل إرادة داخل الإنسان، وتقبد هذا الاخير فلا يستطيع مخاطبة الآتي، كما تعوق التطور والتقدم في كل شئ.
إن ما يميز عصر الأنوار هو ذاك الموقف النقدي والمتشكك في الدين:" الخصوم، الأعداء المفتونون، المدارون لعصر الأنوار. كل هؤلاء يتفقون حول هذه النقطة . إن "فولتير" لن يهدأ في كتاباته كما في مراسلاته عن إطلاق صرخته الحادة"اسحقوا الدنيئ ! Ecrasez l’infâme "،وإن كان يضيف باحتراس أنه ليس الإيمان هو الذي يحارب بل فقط الخرافة. ليس الدين ولكن الكنيسة، فإن الجيل الذي سيتبعه، والذي سيرى فيه أبه الروحي لن يراعي هذا التمييز."*
لقد اطلق الموسوعيون الفرنسيون في حرب مفتوحة ضد الدين، ضد صلاحياته، وضد حقيقته المزعومة. وهم في ذلك لا يعيبون عليه فقط إعاقة التقدم الفكري-في كل زمان- بل كذلك كونه غير قادر على تأسيس أخلاق حقيقية ونظام سياسي واجتماعي عادل ومتين.
إن "دولباخ" في مؤلفه " السياسة الطبيعية" لن يتوانى يرجع إلى هذه النقطة:فأسوأ الأضرار التي ينسبها للدين تتلخص كلها في كون هذا الأخير يصنع من الناس بجعلهم يخافون جبابرة غير مر ئيين-خداما وجبناء أمام طغاة أرضية، ويجردهم بالتالي من كل القوة التي تضمن لهم التحكم في مصيرهم.
كل ذلك صحيح. لكن هذا الرفض المعلن ضد الدين في القرن الثامن عشر لا ينبغي أن يفهم منه أنه رفض للدين في حد ذاته، فهو فقط رفض للكنيسة في شخصه، رفض للنير الذي مارسته بواسطة محاكمها التفتيشية ولتبعات ومضاعفات الحروب الدينية التي كانت مسببها الوحيد، وشاعل فتيله. فبالرغم من كون مفكري الانوار يعلنون سخطهم وازدراءهم للدين، فليس المقصود من ذلك سوى الدين المنزل ، الذي ظل لمدة طويلة تحتمي به الكنيسة، وتبرر به كل أفعالها. إن مفكري الأنوار لم يقفوا عند حد الرفض والطعن في عقم الدين المنزل، بل حاولوا إعطاء بديل له، تمثل بالأساس في ما أسموه ب"الدين الطبيعي" .
إن الدين في نظرهم لا ينبغي أن يكون شيئا نتحمله أو نكسبه من الخارج. إنه يجب أن يكون متدفقا ومنبجسا من الداخل ، داخل الإنسان، ونابعا من أعماقه. يجب على الإنسان في نظرهم أ لا يكون قط مسيطرا عليه من قبل الدين كقوة خارجية وغريبة. إن عليه أن يضطلع به ويبتكره بنفسه بكل حرية. إن اليقين الديني ليس هبة من قوة فوق الطبيعة أو خارقة للعادة، أو من النعمة الإلهية، فالإنسان بإمكانه أن يصل ذلك اليقين بل بإمكانه ان يظل فيه."
من هذه المبادئ النظرية نتجت كل النتائج التي استخلصها مفكروا الأنوار، وكل المتطلبات الملموسة. ولعل أبرز شخصية في ذلك القرن تحمس لفكرة "الدين الطبيعي" هو "ديدرو". فقد نادى به علانية، وفصل القول حوله في أكثر من مقالة في الموسوعة، وفي كل أحاديثه تبريرا لأهمية ذلك الدين:"عبثا أيها المعتقد في الخرافة، تبحث عن سعادتك وراء تخوم الكون التي وضعتك فيها يدي، تقول طبيعة الإنسان... تجرأإذن للتخلص من هذا الدين، خصمي المتغطرس الذي أنكر قوانيني، اجحد بهذه الألهة الغاصبة لسلطاني، لكي ترجع تحت قوانيني.ارجع إذن أيها الإبن العاق، ارجع إلى الطبيعة ! ستآسيك، ستطرد من قلبك تلك المخاوف التي تضنيك، تلك القلاقل التي تمزقك... تلك الإهانات التي تفصلك عن الأنسان الذي ينبغي أن تحب. عد إلى الإنسانية، إلى نفسك،أنثر الورود على درب الحياة"
لقد أصبح الدين الموصوف بالطبيعي يتمتع بحظوة كبيرة. وإذا كان هناك من ساهم بقدر كبير في إكسابه تلك الحظوة في القرن الثامن عشر فلن يكون إلاDiderot. بنصوص كثيرة في هذا الشأن. إذ لم يهدأ طوال حياته-إلى جانب فولتير- عن المطالبة بتحطيم المقدسات و "توسيع فكرة الله، برؤية هذا الأخير في كل مكان يوجد فيه، أو الإكتفاء بالقول فقط بأنه لا يوجد" .
3- من قداسة السلطة الى تعاقد المواطنين:
لقد قاوم مفكرو الانوار في كل المجالات: ضد العادات، ضد التقاليد... وضد كل رموز الماضي. ومع ذلك لم تراودهم قط فكرة أن ما يقومون به لا يتعدى أن يكون سوى مهمة سلبية وهدامة بشكل خالص. بل بالعكس من ذلك كانت تحدوهم رغبة كلها جامحة للإصلاح والتجديد. إنهم كانوا يعون تمام الوعي أن هذا التجديد وهذا الإصلاح لن يتم إلا بإزالة أنقاض الماضي ورواسبه في كل شئ. فاعتبروا عملهم ذاك لا مجرد عملية هدم، بل كفعل يهدف للبناء: بناء صرح المجتمع الجديد.
تلك هي خاصية التي تميز مفكري الأنوار: فبعد اندفاعهم المتحمس لتكسير"الألواح القديمة- « Les vielles tables » نراهم يرسمون بديلا لذلك. لكن ليس هذا البديل يتم دائما إلا حساب العدو اللذوذ للأنوار: أي الكنيسة وكل مؤسساتها، التي في نظرهم تحمل تبعة ترسيخ البعد الروحي للسلطة في أذهان أفراد المجتمع، واعتبارها هذا مجرد مملكة أرضية تتجسد فيها إرادة الله، وتعتمل. والملوك والامراء مندوبي الله وممثليه في هذه الارض. لقد درج الكل " طيلة أزمنة العصور الوسطى الطويلة على ربط السلطة بما كان إلهيا ومقدسا ، فلم يكن للسلطة من معنى إلا أن تكون سلطة إلهية أو تجري سلطتها باسم الإله، وهي لذلك كانت سلطة مطلقة وواحدة ، لا يسأل حاملها على ما يفعل"
لقد بقيت نظرية" الحق الإلهي" أو نظرية التفويض الإلهي للسلطة هي المعمول بها لمدة طويلة، ومفادها: القول بلا محدودية السلطة الملكية المفروض فيها أنها مستمدة مباشرة من الله. فسلطة الملك على الارض توازي من منظورها، سلطة الله في السماء، وما الملك إلا صورة الله الحية، ووكيله على هذه الارض. أما الفرد، أو الرعية، فعليه أن يطيع هذه لاإرادة قبل ذلك أم رفض .
لكن مع مفكري الأنوار ستعتبر هذه النظرية سخافة من السخافات الزائدة ، ومعهم" سترتسم معالم هذا التحول الحاسم، وهذه النقلة الكيفية الكبرى: من السلطة بحسبانها سلطة مقدسة ومطلقة إلى السلطة باعتبارها تعاقدا إراديا واختياريا، باعتبارها" تعاقدا اجتماعيا". معهم، سيحدث الإنتقال... من السلطة بإطلاق القول وتقديس المعنى، إلى الدولة" في معنى تقييد السلطة ومراقبتها" لكن ليس هذا كله ينطبق على مفكري الأنوار، ولا حتى على فلاسفة الموسوعة الفرنسية: ديدرو، فولتير، ودولباخ ... وغيرهم كثير. بقدر ما ينطبق على جان جاك روسو، مواطن جنيف كما كان يحلو له أن يوقع كتاباته دائما. وتلك هي المسألة التي سيبينها الفصل اللاحق.
نظرية روسو السياسية
1- مفهوم "حالة الطبيعة":
"المهمة الاولى للفيلسوف العقلاني، أن ينظف القماش السياسي مما فيه من جوانب لا معقولة. ذلك أن الطريقة الوحيدة لكي تكون لدينا قوانين جديدة، هي أن ندفن القوانين القائمة كلها، وأن نبدأمن جديد".
فولتير Voltaire
"لن يستطيع المشرع تدبير شؤون الدولة، أو سن أية قوانين إلا إذا وجد السطح نظيفا، أو نظفه هو بنفسه".
أفلاطون- الجمهورية 105.أ
في سبيل تشييد نظريته السياسية، بقي روسو وفيا للتقليد الذي رسخه أعلام الفلسفة السياسية قبله ونقصد بهم كل من فقهاء "الحق الطبيعي" من جهة، وكلا من هوبز ولوك ...من جهة أخرى. إذ اعتقد هؤلاء أن الذي يريد إنشاء نظرية سياسية يتعين عليه انشاءها على أساس مفهوم "حالة الطبيعة" وذلك بفحص تلك الحالة، وإدراك خصائصها،والتأكيد مما إذا كانت تمثل حالة سعادة بالنسبة للإنسان أم حالة بؤس وشقاء، ولقد تم لهم ذلك مقابل مفهوم آخر هو مفهوم "حالة المجتمع".
وبالنسبة لروسو، يعد خطابه الثاني حول " أصل اللامساواة بين البشر" الكتاب الذي ناقش فيه هذا المفهوم وفصل حوله القول. لكن قبل رصد قوله هذا نرى أنه من الأفيد بسط بعض الملاحظات الاولية بصدده:
* إن مفاد "حالة الطبيعة" عند روسو، ليس إلا حالة الإنسان قبل تشكل المجتمعات والقوانين، أو بتعبير روسو نفسه حالته "كما برته الطبيعة رغم جميع التغييرات(...) والتطورات التي أحدثها في تكوينه، وفي بنيته الاصلية تعاقب الازمان وتقلبات الأشياء"1 أو بكل إيجاز حالة الإنسان مجردا من كل " مضاف اجتماعي"، عادات وتقاليد كان هذا المضاف أم ثقافة وقوانين...الخ .
* إن "حالة الطبيعة "كما دار حولها الحديث من طرف روسو –بل عند أغلب أعلام الفلسفة السياسية- لا ينبغي أن يفهم منها أن روسو قد انطلق منها في تشييد نظريته السياسية ك- "مرحلة تاريخية" عاشها الإنسان قبل " حالة المجتمع"بالإمكان إثباتها بالوثائق التاريخية إنما هي حالة افتراضية عند روسو.
إنها ليست –على حد تعبير –C.B Macpherson سوى "حالة افتراضية يغيب فيها المجتمع" أو كما يقول – V.Volguineأحد الباحثين في تاريخ التفكير الإجتماعي الفرنسي في القرن الثامن عشر "أطروحة سابقة لظهور الدولة والقوانين". إن هذا الأخير لم يغفل، وهو يتحدث عن روسو،التنبيه الى أن روسو نفسه قد "...أشار غير مرة إلى الطابع الإفتراضي لتعريفه للحالة الطبيعية، التي لا يعلق عليها من أهمية إلا باعتبارها نقطة انطلاق لتأملاته حول اللامساواة، ونفى نفيا قاطعا التأويل الذي قدمه العديد من معاصريه ومن تلاميذه للحالة الطبيعية التي أرادوا أن يروا فيها التجسيد التاريخي..."2. وهذا صحيح لأن روسو نفسه في "الخطاب" يعترف – وبصريح العبارة – بذلك قائلا: إنه "ليس من السهل أن نتعمق في معرفة حال لم يبق لها وجود، أو لم تكن موجودة قط، ولن توجد على أصح الفروض، حال لابد رغم كل هذا الحصول على معلومات عنها صحيحة لكي يمكن أن ننظر ونحكم في حالنا الحاضرة"3. بل يذهب أكثر من ذلك، محذرا من اعتبار أفكاره حول "حالة الطبيعة" بمنزلة الحقائق التاريخية: "يجب أن لا نعد البحوث التي نخوض فيها حول هذا الموضوع حقائق تاريخية، ولكن قياسات افتراضية معلقة على شروط، من نشأتها أن توضح طبيعة الاشياء أكثر مما تهدي إلى أصلها الحقيقي"4.
* من خلال الجمل الاخيرة في النصين المذكورين أعلاه، يتبين أن وظيفة مفهوم "حالة الطبيعة" تكمن في تيسير النظر في الحالة التي توجد عليها المجتمعات الراهنة (أي المعاصرة لروسو)، بعنى أنها وظيفة منهجية بالأساس واديولوجية كما سيتبين فيما بعد.
* إن روسو وهو يفصل القول حول هذه الحالة يميز داخلها تمييزا ضمنيا بين ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى هي تلك التي تمثل الانسان الفرد أو المفرد منظورا إليه في ضوء غرائزه وقدراته وحدها. أما المرحلة الثانية فهي "حالة الطبيعة في صفائها ونقاوتها" وتتمثل في ما ينتج عن وجود الافراد مجتمعين، كل واحد يحمل غرائزه ويمارس قدراته التي يمتلكها دون أن يشكلوا خطرا على بعضهم البعض. والمرحلة الثالثة هي التي تبدأ بظهور الملكية الفردية وظهور "القوانين".
بعد هذه الملاحظات نتساءل: ماذا كان قول روسو بصدد هذه الحالة؟ وما تصوره لها وموقفه منها؟
إذا كان هوبز في مؤلفه الضخم "التنين Leviathan"، وفقهاء "الحق الطبيعي"، غروتيوس وبوفاندروف يعتبرون في تاريخ الفلسفة السياسية أقوى من هاجم "حالة الطبيعة" وانهال عليها بالتذميم، فإن روسو يعتبر النقيض المباشر لهم إلى جانب لوك. إنه أول من سيمجدها، وبالتالي أول من سينبري لمدحها.
إن روسو يفعل ذلك كله، لا لشيء إلا لأن هذه الحالة في نظره، تمثل حالة سعادة بالنسبة للانسان، وتمتاز بالبراءة، لكن القول بأن روسو يعد النقيض المباشر لكل من فقهاء "الحق الطبيعي" الذين اعتبروها "حالة بئيسة" بالنسبة للانسان، وهوبز الذي اعتبرها "حالة حرب الكل ضد الكل" أو "حالة يتحول فيها الانسان ذئبا لأخيه الانسان" لا يعني أنه يعارضهم – خاصة هوبز منهم – فيما اعتبروه خصائص لتلك الحال جملة وتفصيلا.
فهو يساير هوبز في دعواه القائلة بأن مفاهيم العدالة والظلم والتفاوت، والصواب والخطأ... وما إليها، مفاهيم تبقى بدون محتوى في "حالة الطبيعة"، مسايرة تامة، وإن اختلف المرمى وتباين التوجه. يقول روسو: " يبدو لأول وهلة أن الناس، وهم في حال الطبيعة، وإن وإذ لم يكن بينهم أي نوع من العلاقات الاخلاقية والأدبية، أو من الواجبات المعروفة، لم يمكن أن يكونوا صالحين ولاطالحين، ولا كان لديهم فضائل ولا رذائل، إلا إذا اسعملنا هاتين الكلمتين بمعنى طبيعي: فعددنا رذائل في الفرد الصفات التي يمكن أن تكون مضرة بحفظ بقائه، وفضائل تلك التي من شأنها أن تساعد على حفظه. وفي هذه الحال يجب أن يدعى الاكثر فضيلة من كان أقلهم مقاومة لاندفاعات الطبيعة"5.
إن روسو يتفق مع هوبز حول تلك المسألة، لكنه مع ذلك يؤاخذه في كونه اعتبر "حالة الطبيعة" حالة "حرب مطلقة يتحول فيها الانسان ذئبا لأخيه الانسان، يتربص فيه الدوائر، وكلما سنحت له الفرصة أجهز عليه"، ولا لشيء لأن هذا الانسان يفتقر لأية فكرة عن الطيبوبة، وبالتالي لكونه متوحشا وهمجيا بطبعه...6 . إن حياة الناس في نظر روسو، في "حالة الطبيعة" تجري على نحو من البساطة فهم يعيشون منعزلين عن بعضهم البعض، ولا تساورهم حاجة إلى أمثالهم. إنهم كانوا يعيشون أشتاتا في الغابات بلا حرفة ولا عمل، ويقتاتون من خيرات الارض بخصوبتها الطبيعية، ولا يجيدون النطق، ولا يمتلكون لغة ولا ثقافة ولا معرفة. ورغباتهم كلها تنبثق عن حاجاتهم الجسدية: الطعام، الأنثى، الراحة. إن الانسان في تلك الحال حسب روسو يمقت كل عمل يتطلب الجهد والعناء.
وأما عن وظائفهم النفسية، فهي كما يقول روسو، في مستوى وظائف الحيوانات:" إن الابتغاء وعدم الابتغاء، الرغبة والخشية، هي الأفعال الاولى وربما الوحيدة التي تصدر عن أنفسهم"7. وعن أهوائهم يقول بأنها متولدة كلها عن نزوات طبيعية. إذ هم لا يحتاجون إلى أكثر من ذلك ليس لهم من مساكن ثابثة أو أسر، حيث إن العلاقات بين الجنسين عابرة ومؤقتة، والأطفال ينفصلون عن أمهاتهم حال اقتدارهم على تأمين قوتهم بأنفسهم.
إن روسو يرى بناء على ذلك، بأن المشاجرات، أو ما شابه ذلك بصدد أرض أو أنثى... نادرة للغاية عند الناس في تلك الحالة. كيف يحدث ذلك والأرض من حولهم شاسعة تزيد خصوبتها عن حاجاتهم إليها. والحب عندهم لا يتحدى حدود الجنس؟ بل كيف يحدث ذلك وهم لم يعرفوا بعج التفاخر والخيلاء، ولا يميزون بين ما هو خاصتهم وخاصة الآخرين؟ كيف يحدث ذلك وهم لم يمتلكوا بعد في تلك الحال "منازل ولا أكواخ ولا أملاك من أي نوع كان، بل كان الفرد منهم يأوي حيث تتيح له المصادفة لمدة ليلة واحدة، وكان الذكور والانات يختلطون عرضا وحسبما يتيح لهم ذلك اللقاء أو الفرصة أو الشهوة من غير أن تكون الكلمة ترجمانا ضروريا للتعبير عن رغباتهم"8؟
إن عيب هوبز في نظر روسو، يكمن في كونه نظر إلى الانسان في "حالة الطبيعة" بعين الانسان المتمدن أو المدني، وذلك ما حجب عنه رؤية الكثير من الأمور أوقعه في العديد من الاخطاء. لقد أسس مجمل خاصيات "حالة الطبيعة" على مبدأ واحد، وهو مبدأ "إصرار كل واحد على المحافظة على البقاء وتدعيم الوجود"، فادعى بأن الانسان في تلك الحالة "ذئب" و "أناني"...الخ. لكنه –يقول روسو- لم ينتبه إلى تلك العاطفة النبيلة التي يمتلكها أضعف المخلوقات وهي "الرأفة التي تلطف من ضراوة حب الذات وغلوائها. الرأفة التي يرى روسو أن ظهورها قد سبق محاولات التفكير الاولى نفسها. والتي تلعب دور القوانين والفضيلة في تلك الحالة، وتساهم بالتالي في المحافظة على النوع البشري برمته، بتخفيفها لنزوات الأنانية.
ثمة إذن مبدآن في نظر روسو عند الانسان في "حالة الطبيعة": غريزة البقاء، والرأفة. غريزة البقاء تحتم عليه أن يهتم برفاهيته ورغد عيشه بمختلف الوسائل، في حين تجعله الرأفة ينظر بعين الاستفظاع إلى آلام كل كائن حي وعلى الأخص أقرانه من البشر. وهذان المبدآن، مجتمعان، حسب روسو هما ما يجعل الانسان صالحا وفاضلا عكس ما يقوله هوبز الذي ركز اهتمامه على مبدأ حب الذات فقط.
إن ما حدثنا عنه روسو حتى الآن لا يعدو أن يكون سوى مرحلة أولى من "حالة الطبيعة". مرحلة التي تمثل الانسان منظور إليه في ضوء غرائزه وحدها وقدراته، قد استغرقت حسب روسو من عمر الانسان قرونا وقرونا، وتتابعت فيها الاجيال واحدة بعد الأخرى، لكن من غير فائدة.
أما المرحلة الثانية فتبدأ ببداية اجتماع الناس لأسباب كثيرة طارئة وغريبة. لكن حسب ما اورده روسو تبقى أسبابا طبيعية بالدرجة الأولى، إذ تتمثل أساسا في ظواهر الطبيعة: كالسنين المجدبة، وفصول الشتاء الطويلة القاسية، وفصول الصيف المحرقة...وغيرها. كل هذه الأشياء في نظر روسو دفعت بالناس (الذين كانوا منعزلين) الى الأقتراب من بعضهم البعض باستمرار. وهكذا بدأت اللغة تتشكل بعدما كانت وسيلة التعبير عندهم في المرحلة الأولى لا تتعدى تقليد "صراخ الطبيعة" نفسها. ومعها بدأت- باستمرار تلك الظواهر-عمليات التفكير الأولى لتغيير طريقة عيشهم. إذ ألجأتهم الى التماس وسائل للعيش جديدة:"فعلى شواطئ البحار والأنهار اخترعوا الشص والصنارة، وأصبحوا صيادين وأكلة أسماك، وفي الغابات صنعوا لأنفسهم أقواسا ونبالا، وأصبحوا قناصين وصيادين ورجال حرب، وفي البلاد الباردة غطوا أجسامهم بجلود الوحوش التي كانوا يقتلونها، والرعد وأحد البراكين أو إحدى المصادفات الموفقة هدتهم إلى النار، ذلك المدد الجديد الذي تلقوه ليدفعوا قرس برد الشتاء، وعرفوا أن يحتفظوا بهذا العنصر، وتعلموا كيف يعيدون توليده، ثم كيف يطهون به ما كانوا يلتهمون قبل ذلك نيئا من اللحوم"9
إن تكرار هذه الأشياء كلها، يقول روسو" قد أوجد ولابد في نفس الإنسان إدراكا لبعض العلاقات" لكنها مع ذلك تبقى علاقات محددة وغير مكثفة و" لا تطول مدتها إلى ابعد من انقضاء الغرض الذي تكونت من أجله"10.
يسترطد روسو في وصف هذه المرحلة من "حالة الطبيعة" قائلا بأن تلك الخطوات على طريق التحضر قد ساهمت في شحذ حس الملاحظة عند الإنسان، فطفقت الأفكار تتدفق لديه تدريجيا، وهكذا أخذ يدرك أن غيره من بني البشر يشعر بمثل ما يشعر به، ويتصرف كما يتصرف هو، فصار يطلب أحيانا مساعدة الآخرين له. وما كان التعاون يتعدى في البداية حالات متفردة، إذ كان الإنسان يطلب ذلك فقط لتحقيق هدف محدد،ثم بدأت تتكون رويدا رويدا روابط وتجمعات...فصنع البشر في تلك الحقبة من تطورهم الفأس الحجرية،وبنو المساكن والاكواخ، فاكتشفوا لذة الإجتماع إلى غيرهم... وظهرت الأسر المستقرة، وتمخضت العلاقات بين الجنسين عن أواصر أمتن وأكثر ديمومة...
إن هذه المرحلة الثانية من "حالة الطبيعة" يعتبرها روسو من اطول المراحل التي عاشها الإنسان، وتمثل في نظره شباب الإنسانية بعدما مثلت المرحلة الأولى طفولتها. وإن كان ما يعرف عن روسو أنه مجد "حالة الطبيعة" فإن تمجيده ذاك لم يكن في حقيقة الأمر موجها إليها ككل، بل إلى هذه الحقبة الزمنية بالذات، التي تمتد بين المرحلة الاولى ومرحلة نشوء "القوانين" (أي المرحلة الثالثة). هذه الاخيرة التي تمثل في نظره شيخوخة الإنسانية.إذ أن الشعوب كما يقول تحتاج الى الفنون والقوانين والحكومات، حاجة الطاعنين في السن إلى العكاز.
تلك هي المرحلة بالضبط التي يحن إليها روسو،ولأن رأى البعض في أوجه التقدم اللاحقة لها، خطوات على طريق كمال الفرد والإنسانية، فإن روسو لم ير فيها سوى خطوات على طريق انحطاط النوع.
كيف ذلك ؟ ولماذا؟
بكلمة واحدة: لأنه هاهنا تبدأ المرحلة الثالثة من "حالة الطبيعة" المرحلة التي لا يرى فيها روسو سوى شؤما ووبالا مستطيرا على النوع البشري.يقول بصدد هذ المرحلة، وانظاره لا تزال مشدودة إلى سابقتها:" لقد عاش البشر أحرارا، وأصحاء وصالحين، وسعداء طالما اقتنعوا بأكواخهم البسيطة، واكتفوا بلبس الجلود ثيابا...وبالريش والأصداف زينة... وانصرفوا إلى تجويد أقواسهم ونبالهم، وإلى تشذيب الأشجار بالأحجار القاطعةلصنع زوارق للصيد...أي طالما لم ينشغلوا إلا بالأعمال التي في مقدور فرد واحد أن يقوم بها، وبفنون لا يستوجب مشاركة كثرة من الأيدي...لكن ما إن راودت الإنسان حاجة إلى أن يؤازره آخر، وما إن أدرك الفرد الواحد فوائد جمع المؤن لأثنين، حتىاختفت المساواة وظهرت الملكية، وغدا العمل ضرورياوتحولت الغابات الشاسعة إلى حقول غنى، كان على الإنسان أن يرويها بعرقه ، وسرعان ما نبتت فيها العبودية والشقاء والبؤس جنبا إلى جنب مع الغلال"11.
تبدأ المرحلة الثالثة إذن، بظهور الملكية الخاصة، وبظهورها خطا الجنس البشري خطوته الأولى نحو الإنحطاط، يقول روسو في هذه النقطة: "إن أول من سور أرضا فعن له أن يقول:" هذا لي" ووجد أناس على قسط كبير من السذاجة فصدقوه، هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني. ألا كم من جرائم وحروب واغتيالات،وكم ويلات وبؤس وفظائع كان أبعدها عن الناس، وكفاهم شرها، رجل قد هب واقتلع الأوتاد أو ردم الحفر، وصاح بالناس قائلا: حذار أن تصغوا الى هذا الدجال المحتال، فإنكم لهالكون إذا أنتم نسيتم أن الثمار للجميع، وأن الأرض ليست ملكا لأحد"12 .
لكن كيف ظهرت هذه الملكية؟
ارجح الظن- يقول روسو- أن الناس بعدما استقروا وشيدوا الأكواخ، ابتدعوا الزراعة، فكان أول ما زرعوه الخضر من حول هذه الاكواخ، إذ كانت تعوزهم في أول الأمر الأدوات اللازمة لزراعة القمح الذي كانوا على أية حال يجهلون حاجتهم إليه. لكن مع اختراع تلك الأدوات، ومع ازدياد الحاجة، فكر الناس في زراعة أراضي أخرى، وهكذا بدأت عملية تقسيمها وتسييجها. إذ أن العمل فيها قد خول في البداية الحق في غلتها، ومن ثمة الحق فيها نفسها قبل أن تعطي ثمارها، ومع مر السنين تحول هذا الحق الى حق الملكية الخاصة.
إن هذا الحق، في نظر روسو، هو الذي سيصبح منشأ كل الشرور، إذ من السهل تصور ما حدث فيما بعد: فقد نجح البعض في الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي، فغدت وقفا موقوفا عليه، في حين آل الذين حال ضعفهم دون تملكهم ولو شبرا واحدا منها الى حالة من الفقر والعوز.وهكذا اضطرتهم الظروف الى أن يتلقوا كل ما يحتاجون إليه من أيدي الأغنياء أو إلى أن ينهبوهم. ومن هنا تولدت علاقات السيطرة والاستعباد، وعلاقات العنف والنهب، إذ تذرع الفقراء المحرومون من الأراضي بحاجاتهم، ليدعوا لأنفسهم حقا في امتلاك غيرهم يعادل حق الملكية، وقد ترتب على كل هذا صراع لا هوادة فيه بين حق الأقوى وحق شاغل الأرض الأول، وهكذا غدا "المجتمع الوليد" مسرحا لحروب ضارية، وفتن واضطرابات عارمة.
لقد أصبحت الملكية إذن، غير مضمونة بما فيه الكفاية، ومن هنا كان لا بد من تدبر وسائل جديدة لحمايتها، وهكذا لجأ الأغنياء-وهم المتضررون من تلك الحروب والفتن- إلى الحيلة للإيقاع بالفقراء، فابتكروا -كما يقول روسو- :"أذكى خطة اقتدر العقل البشري على ابتداعها"عندما قالو للفقراء : " هيا نتحد لنكفي الضعفاء شر الاستبداد، ولنوقف الجشعين عند حدهم، ونضمن لكل ذي حيازة ما يملكه. لننشئ نظما للعدالة والسلام، يلزم الجميع بالسير على مقتضاها، ولا تحابي احدا، وتقوم نوعا ما أهواء النصيب بإخضاعها القوي والضعيف على السواء الى واجبات متبادلة، وبالاختصار: بدلا من أن نوجه قوانا بعضنا ضد بعض، فلنوحد هذه القوى في سلطة عليا تتولى الحكم فينا بحسب قوانين رشيدة تحمي جميع أعضاء الشركة وتدافع عنهم، وتصد الاعداء المشتركين، وتمسكنا ضمن وفاق أبدي"13.
ليس هذا الإتفاق في نظر روسو سوى خدعة ومخاتلة، إذلم يقم في نهاية الأمر إلا بوضع قيود أمام الضعيف، وامداد القوي بقوى اخرى جديدة. وبتلك الكيفية قضي على الحرية الطبيعية قضاءا مبرما، وثبت قانون التملك والتفاوت إلى الأبد، وحول الاغتصاب اللبق إلى حق لا ينقضي. وأخضع الجنس البشري الى العمل والعبودية والبؤس لجر المغانم على بعض ذوي الطموح والأطماع، حتى أصبح من المتعذر على الإنسان أن يتحرر من النير، ويفلت من السيف الذي يراه مسلطا دائما على رأسه.14
هكذا إذن، يقول روسو، تم نقل الإنسان من حالة المساواة التامة التي كانت له في " حالة الطبيعة" الى اللامساواةالتامة التي أصبحت له في "حالة الإستعباد".إنها " النقطة القصوى التي تغلق الدائرة، وتلمس النقطة التي انطلقنا منها، وهنا يعود الأفراد الى المساواة الكاملة، لأنهم ليسوا شيئا"15 إنها "حالة طبيعية جديدة، تختلف عن الحال التي منها أنا، من حيث أن الأولى كانت حال الطبيعة في صفائها ونقاوتها، وأن الثانية كانت ثمرة الإفراط في الفساد "16
ماذا يفيد هذا الكلام؟
إنه يفيد بأن ما تأسست عليها المجتمعات الراهنة ( ومن بينها مجتمع روسو) ليس إلا خدعة دبرها "ذوي الأطماع والطموح " للإيقاع بالفقراء، وعليه فقد حان الوقت لإرجاع الامور إلى نصابها. إنه يفيد أن"' التعاقد" الذي أبرمه أولائك مع هؤلاء ليس إلا تعاقدا مزيفا... لكن لندع ممارسة التأويل حتى يحين وقتها، ولنكتف بالقول مع روسو بأن ذلك يفيد بأن الاجتماع البشري على ذلك الشكل أصبح غير معقول وغير مقبول. نعم لقد أصبح كل شيء لا يطاق ، ويتعين التفكير في صيغة أخرى للإجتماع تتم منها البداية والعمل بموجب أحكامها.
إن" تلك الصيغة لا يمكن أن تكون شيئا آخر سوى الاتفاق والتراضي على التنازل عن حقوقهم الطبيعية، ما به تقوم حالة الطبيعة في مقابل الفوز بالنعيم الذي تسلم به القوانين الطبيعية"17
إن تلك الصيغة لن تكون إلا صيغة "التعاقد الاجتماعي الحقيقي". وهو المفهوم الثاني الذي يشكل البناء النظري للنظرية السياسية الروسوية.
2- مفهوم "التعاقد الاجتماعي".
" اننا لا نناقش موضوعا هينا. إننا نناقش كيف يمكن أن يعيش الإنسان"
أفلاطون –الجمهورية 352
"إذا عدنا بهذا الشكل إلى موضوع بحثي، امكنت صياغته على النحو التالي: إيجاد شكل للتجمع يحمي ويحفظ بمجموع القوة المشتركة شخص كل واحد وممتلكاته ويظل بواسطته كل واحد، وإن اتحد مع الجميع لا يطيع سوى نفسه، ويبقى حرا بنفس الدرجة التي كان عليها سابقا. ذلك هو المشكل الأساسي الذي يقدم "العقد الإجتماعي" حله ".
روسو : " العقد الإجتماعي " 18
"كل شيء أصبح غير مقبول. كل شيء يحتم التفكير في صيغة أخرى للإجتماع". إلى هذه النتيجة بالضبط انتهى روسو. وتلك هي المسأة التي تميزه، وتجعله بالتالي أقرب إلى الواقع، فعندما أجهد نفسه بالرجوع إلى الوراء، وبعدما قفز على "التاريخ" بحثا عن الإنسان كما "برته الطبيعة" نراه يسعى جاهدا الى تقديم حل لذلك الإشكال.
إن ما يلفت الإنتباه عند روسو فعلا، هو إصراره على التشبث بأهذاب الأمل في العيش السعيد، من جهة، وسعيه الى استخراج ذلك الأمل من عمق البؤس الذي انتهت إليه "حالة الطبيعة" من جهة أخرى،، فبعدما كان أكثر إغراقا في تصوير" حالة الطبيعة" خاصة المرحلة الأخيرة منها،- والتي ليست سوى حالة مجتمعه، أو المجتمعات المعاصرة له-كحالة تحمل على الظلم والأنانية، والاستعباد والاستبداد، نراه مع ذلك يسعى جاهدا للوصول الى الأسباب التي تحمل الامل والرجاء في أعماق تلك الحالة.
إن الصيغة/ البديل للخروج من تلك المرحلة التي انتهت إليها "حالة الطبيعة" والتي ليست سوى مرحلة " مدنية مشوهة" في نظر روسو، هو التعاقد الاجتماعي الصحيح والحقيقي. لكن ماهو المقصود بهذا التعاقد؟ وما مضمونه؟ وبأي معنى يتحقق؟...
في مؤلفه "العقد" يحاول روسو ربط كلامه عن صيغة التعاقد الاجتماعي، بما انتهت "حالة الطبيعة" يقول :" افترض أن البشر، وقد بلغوا هذا الحد الذي تتغلب فيه العراقيل التي تهدد بقاءهم في حالة الطبيعة، بقوة مقاومتها، على القوة التي يستطيع استخدامها كل فرد للبقاء في هذه الحالة. عندئذ يعود غير ممكن أن تستمر هذه الحالة البدئية، وأن الجنس البشري لاريب هالك إن لم يغير كيفية وجوده"18.
يجب على الجنس البشري أن يغير كيفية وجوده. لكن حسب روسو، لا على تلك الطريقة التي خرجوا منها من "حالة الطبيعة" . لا بواسطةذلك النوع من التعاقد المزيف، بل بواسطة تعاقد اجتماعي حقيقي.
إن روسو وهو يحاول تحديد هذه الصيغة، لا يتوانى يرجع الى الطعن في الصيغة الأولى التي سبق ان تعرضنا لمضمونها. فهذه في نظره ليست سوى غش ومخاتلة، ليست سوى خدعة وحيلة دبرتها" قبضة من الناس تفيض بالأشياء غير الضرورية" ضد" جمهور الجائعين الذين يفترقون لما هو ضروري"19. وعليه فإن روسو، يرى بأن التعاقد الاجتماعي الصحيح لايمكن أن يتحقق إلا في إطار مجموعة من الشروط: أولها، أن يكون فعل التعاقد هذا فريدا في نوعه ومتميزا في طبيعته عن الصيغة الأولى، ثانيا، أن لا يكون الذي يتعاقد سوى الشعب وحده.
إن كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا متى كان المتعاقد هو الشعب والمتعاقد معه هو الشعب نفسه ، أي متى كان التعاقد بين الشعب وذاته، أو بتعبير آخر أكثر وضوحا، متى كان المتعاقدون هم أبناء الشعب. لا يقتضي فعل التعاقد، عند روسو، أكثر من طرف كما هو الشأن في المرحلة الثالثةمن "حالة الطبيعة" التي لم يكن التعاقد فيها يتجاوز مجرد الاتفاق بين الأغنياء والفقراء ، أو بين الرؤساء /الملوك والأمراء... وجمهور الشعب.
إن فعل التعاقد ينبغي أن ينبع من كل الشعب ليصب في الشعب، وأية صيغة أخرى لن تكون سوى تكرار لمثل ذلك العقد غير الحقيقي . إن " الامر لا يتعلق أبدا بنوع من التعاقد اللامتكافئ والجزئي بين الجماهير وحكامها، ولكن يتعلق بنوع من الواجبات المتماثلة التي يلتزم بها كل فرد تجاه الآخرين. إن المسألة هنا ليست مسألة اتفاق حول ما للفرد من واجبات على الدولة وما للدولة من واجبات على الفرد"20
تلك هي الصيغة التي ينبغي أن يكون عليها فعل التعاقد. لكن على ماذا سيتعاقد الناس أو أبناء الشعب؟ إن جواب هذا السؤال قد تضمنه النص المدرج في بداية النقطة: التعاقد سيكون حول خلق "قوة مشتركة" تستمد من فعل التعاقد نفسه، وحدتها، وأناها المشتركة، وحياتها، وإرادتها. إن تلك "القوة المشتركة" ليست في نظر روسو سوى ذاك "الشخص العمومي الذي يتكون على هذا النحو باتحاد كل الاشخاص"21 والذي يتخذ مجموعة من الاسماء ، تختلف باختلاف الزاوية التي ينظر إليه منها: فهو جمهورية République أو جسد سياسي Corps politique، وقد يسمى أعضاؤه دولة Etat من حيث هو منفعل، أو سيادة- Souverain من حيث هو فاعل، وقوة Puissance بمقارنته بأمثاله"22.
إن هذه "القوة المشتركة" ،إذن، ليست سوى تعبير عن إرادة الشعب، أي " الإرادة العامة" أو السيادة، وقوامها مجموعة من البنود المحددة بطبيعة التعاقد نفسه، إلى درجة أن أدنى تحوير يجعلها عديمةالمعنى والقيمة، وباطلة المفعول. وتلك البنود إذا أدركناها-يقول روسو- على حقيقتها أمكن ارجاعها إلى بند واحد هو:" أن يتنازل كل مشارك كليا عن شخصه، وعن كل حقوقه لفائدة المجموعة" أو بعبارة أوضح: أن "يضع كل واحد منا شخصه وكل قوته تحت سامي قيادة الإرادة العامة، ونتقبل كجسد واحد كلعضو ضمننا كجزء لا يتجزأ من الكل"23.
إن فعل التنازل هذا، قد يبدو لأول وهلةأنه عند الفرد تحول حقيقي لكن في الواقع- حسب روسو- ليس كذلك. ففي الوقت الذي يبدو أن كل شيء قد انتزع منه، يمنح له كل شيء. إذ مع الحياة الاجتماعية والمدنية يبدأ القانون والأخلاق بالفعل. إنه لا وجود للقانون والاخلاق إلا حيث تكون هناك قواعد عامة، ولا وجود لهذه الاخيرة حيث لا وجود للإرادة العامة... وعليه فإن الفرد لا يتخلى لنفسه عن ذلك، ككائن " حسي" إلا ليتأكد ككائن عقلاني وأخلاقي24.
تنازل الفرد عن شخصه وقوته وحقوقه لصالح الإرادة العامة- حسب روسو – ليس من العبودية في أي شيء. إنه ليس خضوعا أو فقدانا للحرية، ولصفة المواطن والأخلاق...وما إليها. إن روسو لا يناقش هذه المفاهيم: الحرية، المواطن، الأخلاق... وغيرها كمافهيم ميتافيزقية، منفصلة عن الواقع، ولا تمت اليه بـأية صلة، بل باعتبارها تعابير سياسية، وممارسات لما يخوله القانون للإنسان، وتجسيدات للإرادة العامة التي هي المعبر الحقيقي عن الشعب برمته، أي باعتباره مجموعة من الأفراد الأحرار المشاركين في السيادة.
إن المقصود هنا هو الحرية والأخلاق المدنية، وليس شيئا آخر. وأي فهم آخر يعطى لها تصبح أقرب إلى تلك التي كان يتمتع بها الإنسان في "حالة الطبيعة" (خاصة في مرحلتها الثالثة)، إنها إذن مفاهيم تستمد معانيها، وأصولها، وصلاحيتها، من صلب وطبيعة "المجتمع المدني"المؤسس على التعاقد الاجتماعي الحقيقي.
التعاقد كفعل إرادي وواعي، وليس كفعل طبيعي وتلقائي، إذ عند روسو، هناك فرق شاسع، واختلاف واضح بين التعاقد الحقيقي، المستوفي لجميع الشروط، وبين التعاقد "المزيف" الذي لا يعبر إلا عن المصلحة الخاصة، ولا يفضي إلا تكوين ما يسمى بإرادة الجميع لا الإرادة العامة. التعاقد الحقيقي هو مشاركة الفرد في صياغة العقد من جهة، والتزام متكافئ بين المتعاقدين بالعمل بمقتضيات أحكامه، من جهة ثانية. وما دام كذلك فإن تنازل الفرد عن قوته وشخصه... لن يكون إلا اختيارا للحرية. لأن طابع الوعي وصفة المسؤولية والإرادة هي القمينة بأن تضفي عليه صفة الحرية.
إن فهم روسو للحرية وكل الاخلاق المدنية على ذلك الشكل، يصدر عن تصور خاص عنده، ومفاده أن "الخير الأكبر الذي يضمن الاستقلال، والذي استلب في "حالة الطبيعة "... لن يسترجع، وبشكل خالص، إلا في إطار الاستيلاب الشامل"25 أي في إطار التعاقد الاجتماعي الحقيقي، وداخل المجتمع المدني. وجعل مفهومي الحرية والمواطن والأخلاق تلبس تلك المعاني، معناه حسبه، أن "الجسد السياسي" أو السيادة من حقها أن "تحمل قسرا على الإنصياع للإرادة العامة أيا يرفض الإنصياع عن طواعية، ولا يعني هذا سوى إجباره أن يكون حرا، لأن ذلك هو الشرط الذي يضمن للمواطن .. حمايته من كل تبعية شخصية. وهو الذي يكمن وراء سير الآلة السياسية وحركاتها السحرية العجيبة، وهو الذي يجعل الإلتزامات المدنية شرعية، بينما تكون لا معقولة واستبدادية وقابلة لأشنع التجاوزات"26. يحق للسيادة أن تفعل ذلك، وما يجيزه لها، وهو ما تتمتع به من خصائص أو خاصيات: إذ هي، من جهة ـ وفقا لما سبق ـ تعبير صادق عن الإرادة العامة.الإرادة العامة التي هي معصومة من الخطأ، والتي لا يمكن- بحكم الكيفية التي تكونت بها، أي بحكم طبيعتها-أن تضل. وإذ هي من جهة ثانية غير قابلة للتفويت ةالتجزئة. وإذ هي من جهة ثالثة، مقدسة ومطلقة، ما دامت نابعة من الكل وتخص الكل.
إن السيادة يحق لها أن تفرض على المواطن أداء الخدمات حالما تطالبه بها. لكن هذا لا يعني أن ليس هناك منطقا يتحكم في أوامرها فكل " ما يتنازل عليه أي شخص بموجب الميثاق الاجتماعي: أي قوته وممتلكاته، وحريته، هو من كل ذلك الجزء الذي يهم المجموعة فحسب"27. إن " السيادة من جانبها لا تستطيع أن تثقل كاهل الرعايا بأي قيد لا يعود بالنفع على المجموعة. إنها لا تستطيع حتى أن تريد ذلك، فلا شيء يتأتى من غير موجب في ظل سيادة العقل..."28 إن نفود السيادة، إذن، وإن "كان مطلقا ومقدسا ومنيعا لا يمكن أن يتجاوز حدود الإتفاقيات العامة"29. وهكذا فإن التساؤل عن مدى امتداد حقوق السيادة وحقوق المواطنين على التوالي، إنما يعني "التساؤل عن مدى ما يمكن للمواطنين أن يلتزموا به ازاء أنفسهم، كل واحد ازاء الجميع، والجميع ازاء كل واحد"30.
* في القانون والمشرع:
في الفصل السادس من الكتاب الثاني من مؤلف " العقد" ينبهنا روسو إلى أن ما قمنا به حتى الآن، لا يتجاوز أن يكون تحديد صيغة فعل التعاقد، وبالتالي منح الوجود والحياة للجسد السياسي، بواسطة هذا الأخير. والتوقف عند تلك النقطة، في نظره معناه أننا لم نفعل أي شيء، ذلك أن "الفعل البدئي الذي يتكون هذا الجسد من خلاله لا يحدد بعد شيئا مما يجب فعله للبقاء"31. إن الجسد السياسي ليس هو المهم، بل الأهم أن تمنحه الحركة والإرادة.
لكن بأي معنى تعطى الحركة للجسد السياسي؟
إنها لا تمنح له-حسب روسو- إلا بالتشريع وسن القوانين.
ولكن ماهي القوانين؟
إنها حسبه ليست سوى أفعال الإرادة العامة ونشاطاتها. ومعنى ذلك أنها ليست إلا "سجلا ترتسم فيه إرادتنا" أو "بيانا لتلك الإرادة". هي كذلك لأن الإرادة العامة ليست سوى إرادة الشعب.
لكن من هو واضع القوانين؟
يجيب روسو على هذا السؤال، مؤكدا أنه ما دامت القوانين ليست إلا " شروطا للمجتمع المدني"، أي ما ينبغي أن يكون عليه هذا الاخير بموجب فعل التعاقد، ومادام الذي يتعاقد هو الشعب. فإنه، وهو المطالب بالخضوع لتلك القوانين، يبقى الوحيد الذي من حقه وضع القوانين.
لكن هناك عقبة أخرى ينبغي تجاوزها: كيف يتسنى للشعب وضعها وضبطها؟" ايحصل ذلك بالإجماع وبضرب من الإلهام الفجائي؟ هل للجسد السياسي أداة يعبر بها عن إرادته؟ من سيكسبه البصيرة الضرورية لسن القوانين ونشرها للملإ مسبقا؟ وإلا فكيف سيعلن عنها عندما تقتضي الحاجة؟"32 أو بعبارة أخرى: هل للشعب –أو الإرادة العامة- من الخصائص ما يؤهله للقيام بذلك؟.
إنه السؤال الذي يطرحه روسو في هذه الصيغ: " كيف يمكن لجموع عمياء لا تعرف غالبا ما تريد، لأنها نادرا ما تعرف ما هو خير لها، أن تنفد من تلقاء نفسها مشروعا في عظمة وعسر نظام تشريعي؟"33 وهو نفسه السؤال الذي يجيب عليه بالنفي، مؤكدا " أن الشعب يريد الخير دوما من تلقاء نفسه، لكنه لا يتبينه من تلقاء نفسه دوما... والإرادة العامة دائما قويمة، لكن الحكم الذي يقودها ليس دوما بالحكم النير"34
ماذا يفيد الكلام ؟
إنه يفيد، حسب روسو، ضرورة ايجاد قوة، مهمتها تبصير الشعب أو الإرادة العامة" بالأشياء كما هي، وأحيانا كما يجب أن تبدو لها، وهديها إلى الطريق السوي الذي تبحث عنه، ووقايتها من الأهواء الخاصة، وتقريب الأزمنة إلى عينها، ودفعها إلى موازنة الفوائد الآتية والمحسوسة الجذابة بعواقب الغد البعيد الخفي"35. وبتعبير أكثر وضوحا: إنه يفيد ضرورة وجود مشرع للشعب.
قد يبدو هذا الجواب حاسما ودقيقا في ذات الوقت. لكن ثمة صعوبة جمة يطرحها، إذ أخد بعين الإعتبار كل ما سبق ذكره: فرب معترض يقول: وهل من حق أي شخص أن يدعي ان بامكانه القيام بتلك المهمة: التشريع؟
جواب روسوعلى هذا السؤال: أن ليس من حق أي واحد أن يدعي أن بإمكانه أن يكون مشرعا. ‘إذ المشرع لابد أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط، كما أنه لا بد أن يتمتع بمجموعة من الخاصيات: أن يكون فطنا، فائق الذكاء مطلعا على أهواء الشعب الذي يريد أن يشرع له، دون أن تعرف تلك الأهواء إليه سبيلا. وأن لا تكون له أية صلة بطبيعتها، وإن كان يعرف أعماقها، وتكون سعادته غير مرتبطة بالشعب، وإن تعلقت همته بتحقيقها لذلك الشعب...الخ.
لكن رغم هذا الحل تبقى هناك صعوبة أخرى ينبغي التغلب عليها وإلا انهار كل ماتم بناؤه، أو ايجاده بموجب التعاقد الاجتماعي: إنها صعوبة تتمثل في الموقع الذي سيحتله ذلك الشخص الاستثنائي بعبقريته داخل الكل الهائل الذي تم إنشاؤه، أي دولة التعاقد، وفي طبيعة علاقته بالإرادة العامة أوالسيادة؟
الجواب عن هذين السؤالين، نجده جاهزا عند روسو: يقول:" إن المشرع من كل وجوه النظر إنسان خارق للعادة، داخل الدولة. وإن كان كذلك من حيث العبقرية، فهو كذلك أيضا، وبما لا يقبل درجة عن الوجه الأول من حيث الوظيفة. فليست هي بالقضاء ولا كذلك بالسيادة.إن هذه الوظيفة التي تؤسس الجمهورية لا تندرج إطلاقا ضمن ميثاقها الأساسي"36. المشرع إذن لا يمت بصلة لدولة التعاقد.لكن هذا لا يعني أنه منعزل عنها تمام الانعزال. كما أنه لا يعني أنه يوجد فوقها، وإنما يعني ذلك فقط أنه ليس سيدا ولا حاكما (قاضيا)، ولا يمكن أن يكون كذلك. إن مهمته ليست قيادة الشعب الذي شرع له، بل فقط سن القوانين، إنه يمنح الحركة للدولة، لكنه مع ذلك لا يشكل قط جزءا من الدستور. إنه يصنع القوانين، لكنه لا يعطيها قوة تنفيذية.
هل ذللت كل الصعاب؟ لا أبدا. إن هناك مشكلا آخر يطرحنفسه بإلحاح: يتمثل إجمالا في كيف يستطيع المشرع إقناع جمهور الشعب بالقوانين التي سنها، علما بأنه لم ينادا به نفسه إلا لأن ذلك الشعب ماهو إلا "جموع عمياء"؟ يقول "روسو" ثمت صعوبة أخرى تستحق الإنتباه، هي أن الحكماء الذين يريدون مخاطبة السوقة بلغتهم، لا بلغة هؤلاء، لا يستطيعون تبليغ أفكارهم إليهم، والحال أن هناك آلافا من الافكار التي يستحيل ترجمتها الى لغة الشعب، فالعبارات المسرفة في العمومية، والمقاصد المفرطة في البعدعن المشاغل الآنية تستعصي على إدراكه. فكل فرد لا يرضى بخطة حكم غير الخطة التي تخدم مصلحته الخاصة"37.
المشرع لا يستطيع استعمال القوة والبيان والتدليل لإقناع أفراد الشعب المتعاقدين، بالقوانين التي شرعها. ماذا يبقى إذن؟ ليس امامه سوى طريقة واحدة ووحيدة: أن يلتجئ الى "سلطة من طراز آخر، تستطيع أن تجر دون عنف، ، وأن تستميل دون اقناع"38.
لكن ما طبيعة هذه السلطة؟
إنها في نظر روسو، لن تكون، في عمقها إلا سماوية. وصلاحيتها يؤكدها التاريخ. ذلك أن هذا الأخير-في نظره ينبؤنا بأن الاعتبارات التي سبق ذكرها هي التي"حملت آباء الامم في كل الأزمنة على الإلتجاء الى تدخل السماء، وتشريف الآلهة بنسبة حكمتهم إليها بحيث تكون الشعوب خاضعة لقوانين الدولة، كما كانت قوانين الطبيعة. وترى نفس القوة وراء تكوين الإنسان، وتكوين المدنية، فتنقاد بحرية، وتتحمل عن طواعية غلة النعماء العمومية"39.
* في الحـكـومــة:
يستمر روسو في تذليل الصعوبات على ذلك النحو، وبمقدار مايتم له تجاوز الواحدة منها، بمقدار ماتطل أخريات برؤوسها، وكأنها تريد أن تهدم كل ما تم إنشاؤه: لقد وجد روسو حلا مناسبا لمشكل المشرع وماترتب عنه من مشاكل اخرى. لكن هاهو أمام مشكل آخر من الصعوبة بمكان: إنه مشكل من سينفد القوانين؟ هل الإرادة العامة؟ هل السيادة؟ أم ماذا؟ علما بأنها –كما سبقت الإشارة الى ذلك –لا تقبل التفويت، وإنها لنفس السبب الذي بمقتضاه لا تقبل التفويت غير قابلة للتجزيئ؟ كيف يحلو لروسو الاقرار بذلك، وهو الذي استهجن أساليب المنشغلين بالسياسة في عصره، الذين " عمدوا بعد أن قصروا عن تجزئة السيادة في مبدئها الى تجزئتها في موضوعها... الى قوة وارادة، الى سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية، الى حق جبائي وقضائي وحربي، الى إدارة محلية والى سلطة تعنى بالتفاوض مع الخارج"؟ كيف يمكنه القول بذلك وهو الذي يرفض ما يقوم به هؤلاء، إذ "يجعلون من السيادة كائنا غريبا ومؤلفا من قطع ألصقت الواحدة منها بالأخرى"؟ كيف يمكنه الاقرار بذلك وهو الذي لم يجد ما يصف به هؤلاء سوى تشبيههم بمشعوذي اليابان الذين يمزقون الطفل أمام أعين الناس المتفرجين، ثم يرمون بالأعضاء الواحد تلو الآخر في الهواء، فإذا الطفل ينتصب حيا متجمع الأعضاء"؟وأخيرا: كيف يمكنه تجزئة السيادة وهو الذي لم يعتبر ذلك إلا " شطارة تليق بمهرجي الأسواق"؟40
إن روسو لن يفعل ذلك، بل سيخرج من ذلك الإشكال بكيفية فريدة: إن الذي سيسهر على تنفيذ القوانين التي شرعها المشرعهو ما يمكن تسميته ب"الحكومة".
يكتسي الحديث عن هذه الحكومة طابعا خاصا عند روسو، لما يثيره من إشكالات. وقد أدرك نفسه هذه الصعوبة. فخصص لها أطول فصل من فصول "العقد" و أعقدها. وهو بغض النظر عن ذلك نجده، وقد شعر بالحاجة الى أن ينبه القارئ، بأن يكون يقظا ويقظا بشكل خاص، مشيرا الى أنه سيكون قاصرا عن البيان مع من لا ينبغي إعارته الانتباه.
ومنذ البداية يشرع في تعريف هذه الحكومة قائلا: "إنها هيئة تتوسط الرعايا والسيادة، وتحقق اتصالا متبادلابينهما، ويوكل إليها تنفيذ القوانين، والحفاظ على الحرية المدنية والسياسية على السواء"41.وهو نفس التعريف الذي يكرره بتعابير مختلفة على امتداد ذلك الفصل: فتارة يسميها "إنابة يمارس أعضاؤها، في نطاقها ومن خلالها كأعوان السيادة، السلطة التي عهدت بها هذه الاخيرة إليهم، والتي بإمكانها الحد منها أو تحويرها واسترجاعها منهم متى طاب لها أن تفعل"،وتارة يسميها " الإدارة العليا" أو "الممارسة الشرعية للسلطة التنفيذية". فيدعو أميرا، أو قاضيا أو ملكا، الشخص أو الهيئة المكلفة بهذه الإدارة. وتارة ثالثة يسميها " عونا خاصا يجمع السلطة العمومية ويمارسها، حسب اتجاهات الإرادة العامة". وفي أغلب الاحيان يكتفي بالإشارة إليها كقوى وسيطة تمر علاقة الكل بالكل، أو السيادة بالدولة، من خلال غلاقتها بكليهما"...الخ42.
لكن رغم ذلك، فإن مسألة الحكومة، أو " السلطة التنفيذية للقوانين" لا تخلو من كونها تطرح بعض الإشكال: فالأهم هو كيف يتم إنشاؤها؟ وما طبيعتها أي جوهرها؟
عن السؤال الأول يجيب روسو بشكل غامض، أن الحكومة لم تتأسس بموجب" عقد". مستبعدا بحزم كل فرضية تقول بأن ميثاقا ل" الخضوع" قد تلا منطقيا "التعاقد الاجتماعي". ومؤكدا أن أعضاءها ليسوا إلا " موظفي" الشعب وخدامه أو مندوبيه، وليسوا أبدا سادته. وبهذا الشكل يكون على كل حال قد تفادى تناقضا كاد يسقط فيه: إذا أكد في غير موضع أنه "لا يوجد في الدولة إلا عقد واحد ،هو عقد التجمع، وهذا العقد يكفي بمفرده لقطع السبيل امام كل عقد آخر. ويستحيل تصور أي عقد آخر عمومي لا يكون انتهاكا للأول "43.
أما عن السؤال الثاني فإن إجابة روسو، تتلخص في أن الحكومة لا يمكن أن نعتبرها مستقلة عن السيادة، فهي لا تتمتع ب"أنا خاصة" تعمل في مقابل " الانا المشتركة" التي للسيادة او الإرادة العامة. بل هي تمارس مهمتها، وهي تابعة للسيادة، ومنفعلة وليست فاعلة. إن حياتها، حياة "مستعارة"، ولم توجد قط من تلقاء نفسها.
ذاك هو فحوى كلام روسو عن المشرع والحكومة. إنهما الموضوعان اللذان ظلا يقلقانه على امتداد صفحات مؤلف "العقد" لما أثاراه من إشكالات، تكاد في بعض الأحيان، أن تجعل روسو يشكك في صلابة الدولة المؤسسة على التعاقد الاجتماعي الحقيقي، التي أراد لها أن لا تكون سوى التعبير الصادق عن الإرادة العامة. إرادة أبناء الشعب، باعتبارهم مواطنين أحرارا يشاركون على حد سواء في ممارسة السيادة. والخالية تماما من كل ما يمت بصلة لما هو خاص.
"لقد أراد روسو مبدئيا أن يبعد الفرد من الدولة كما هو. لكن الفرد يظهر من جديد بقوة الأشياء. إنه يظهر في (شخص) المشرع، وفي (شخص) الحكومة. وروسو لا يعرف كيف يدمجه داخل نسق يستبعده. ومن هذه الزاوية يظهر المشكل الديني في فصل " في الدين المدني"44.
3- مفهـــوم " الديـــن المدنــــي":
"هل كان روسو يقول كل شيء؟ هل كانت السيادة محمية بشكل كاف من اغتصابات الحكومة وخبث الأحداث؟ هل كان لدولة الشعب حظوظ كافية، ليس في أن تكون أبدية، وإنما في أن تدوم مدة معقولة؟ هل كانت الروح الاجتماعية التي هي ثمرة العقد، وإسمنت الاتحاد السياسي، مضمونة ومدعمة بما فيه الكفاية، بالعديد من الاحتياطات؟
إن دعامة إضافية مازالت تنقصها أيضا: هي دعامة الدين، ولكن تحت أي شكل ؟".
"تاريخ الفكر السياسي" شوفالييه ص 512.
"إن حرص روسو على المحافظة على حرية الأفراد، والمساواة بينهم، بعد الإنتقال من حالة الطبيعة الى الحالة المدنية،واضح جدا، وقوي جدا.ولكن حرصه على وحدة الدولة وسلامة حياة الجسم السياسي وصيانته من أخطار الإنقسام والطغيان والإستبداد، هو ما دفعه إلى التشدد في تصوره لطبيعة هيئة السيادة، وعملها، وفي تحفظه تجاه الحكومة عموما وهو ما حمله على طرح نظرية الدين المدني"
مجلة " الفكر العربي المعاصر" ع.24 ناصيف نصار السنة 1983. ص30
" أريد أن يكون في كل دولة قانون أخلاقي أو نوع من إعلان إيمان مدني"
"من روسو الى فولتير.18آب 1758"
يذهب بعض المهتمين بفلسفة روسو السياسية، الى التأكيد على أن فكرته حول " الدين المدني" تثير بعض الإستغراب: ففئة منهم لا ترى في ذلك سوى اقحام غير القاعدة التي أقام عليها روسو دولته.بينما الفئة الأخرى تعتبر ذلك-وبدون تحفظ- ضربا من المفاوقات يصعب استيعابه.
ومجمل القول أن تلك لآراء تبقى مجرد أحكام أطلقت على عواهنها. إذ ان القراءة المتأنية لكتابات روسو، تبين غير ما ذهب إليه هؤلاء: فرسالته الى فولتير بتاريخ 18 آب 1758، وكتاب "إميل /Emil" و"رسائل من الجبل Lettres de la montagne" تبين أن تلك الفكرة ليست شيئا طارئا على نظرية روسو السياسية كما أنها ليست غريبة عنها. وأكثر من هذا، فإن المطلع-بتأن وتمعن- على مؤلف " في العقد الاجتماعي" يستشف أن هذه الفكرة قد أرقت روسو وأقلقته وهو يحرر هذا المؤلف. فقد سبقت الإشارة-في إطار الحديث عن المشرع- إلى أن هذا الأخير حسب روسو لا يمكنه إقناع الشعب بصلاحية القوانين التي سنها، باستعمال القوة والبيان والتدليل، وإنما بالإلتجاء الى "سلطة من طراز آخر تستطيع أن تجر دون عنف، وأن تستميل دون إقناع". كما تمت الإشارة كذلك الى أن هذه السلطة لا يعني بها سوى السلطة السماوية او الإلهية. وللمزيد من التدليل نذكر بأن روسو قد أنهى حديثه عن المشرع بنص يقول فيه:" ولا ينبغي أن نستنتج من كل هذا (الإشارة هنا الى تلك السلطة ...) أن للسياسة والدين موضوعا مشتركا، ومرامي واحدة، وإنما ينبغي أن يصبح هذا أداة لتلك عند نشأة الامم"45. وهو ما يبرهن على أن روسو كان بوده طرق فكرة " الدين المدني" مباشرة بعد الحديث عن المشرع، لكن لسبب من الاسباب ( الحفاظ على نظام المؤلف ومشكل الحكومة...) أجلها الى نهاية المؤلف. وتلك هي الحقيقة نفسها التي يوردها بعض مؤرخي الفكر السياسي: إذ أن روسو-حسبهم- قد كتب مسودته حول "الدين المدني على ظهر الاوراق التي كان قد حرر فصله حول المشرع.46
ما مضمون " الدين المدني" إذن، كما تم طرحه من قبل روسو؟ وما الغاية منه؟
قبل الإجابة عن هذين السؤالين، نشير الى أن روسو لم يأت دفعة واحدة ليسن هذا الدين، وإنما كان دينه نتيجة لما تفتقر إليه الاديان الاخرى المعروفة في زمنه،فهو دين مبني على على نقده لتلك الاديان، وجامع للعنصر الأكثر تقدما وإيجابية فيها.
إنه يميز بين ثلاثة أنواع من الاديان: " دين الإنسان" ، و " دين المواطن"، و " دين الكهنة ". الاول حسبه هو " دين الإنجيل "، ويسميه كذلك ب" الحق الإلهي الطبيعي " . وهو في نظره لا يعتمد على المعابد والمذابح ، بل يمارس بدون طقوس، وينحصر في العبادة الداخلية الصرفة لله، وفي الواجبات الاخلاقية. أما الثاني فيسميه ب" الحق الإلهي المدني أو الوضعي". ويقصد به أديان الشعوب التي عاشت قبل المسيحية، والمتبع كل واحد منها في بلاد بعينها، والذي له عقائده وطقوسه وشعائره التي تنص عليها القوانين. اما النوع الثالث فنموذجه عنده هو المسيحية الرومانية، ودين الصينيين واليابانيين.
ليس هذا التمييز الذي قام به روسو بين هذه الانواع الثلاثة من الديانات، لغوا او ماشابه ذلك، فهو عنده قائم على معيار سياسي مهم مرتبط أساسا بنظريته السياسية ككل لا يتجزا. إن القيمة التي يبحث عنها في كل دين هي قيمته كعامل سياسي،ودوره في حياة الدولة. المنطلق عنده هو الوحدة التامة في الجسم السياسي:" فكل ما يعمل على تكوين هذه الوحدة أو يساعد على صيانتها وحفظها وتقويتها هو حسن. وكل ما يتسبب في إدخال الخلل إليها أو يؤدي إلى تصدعها وإحلا ل التناقض في كيان الإنسان الاجتماعي هو قبيح"47.
ما الدين إذن، الذي-من بين الانواع الثلاثة – تتوفر فيه هذه الخاصية؟ أي هذه القيمة السياسية المتمثلة في حفظ الجسد السياسي المنبثق عن العقد الاجتماعي؟
يوفر روسو على نفسه عناء البحث عن قيمة النوع الثالث، أي "دين الكهنة " لاعتباره ذلك مضيعة للوقت. كيف لا وهو في نظره " يمنح البشر تشريعين ورئيسين، ووطنين، ويفرض عليهم واجبات متناقضة، ويمنعهم من أن يكونوا في الآن نفسه عبادا ورعين ومواطنين صالحين"48.
أما النوعين الآخرين، فيرى روسو أن لهما حسنات كما لهما عيوب: مزية" دين المواطن" كما يرى، تكمن في كونه "يجمع بين عبادة الله وحب القوانين، ويدعو المواطنين الى تقديس الوطن، ويعلمهم أن خدمة الدولة إنما هي خدمة ربهم القيوم"49. كما يعلمهم أن "الموت من لأجل الوطن استشهاد في سبيل الله". غير أن عيوبه حسب روسو، كثيرة: أولها : أنه مؤسس على الكذب والبهتان-إذ الدين الحق هودين الإنجيل-وثانيا، أنه قائم على مجموعة من الطقوس الجوفاء. وثالثهما –وهذه هي الخطيرة- تكمن في كونه يحمل المعتنق له على اللاتسامح وحب القتل وسفك الدماء.
أما فيما يخص مزية "دين الانسان" فتكمن أولا في قدسيته وسموه، وثانيا في كونه" يجعل من البشر أخوة، إذ كلهم أبناء إله واحد"ولا تنفصم العروة الاجتماعية التي تربط بينهم حتى الموت . لكن مع ذلك له عيب واحد، وخطير في ذات الوقت، في نظر روسو:إنه" يترك للقوانين القوة التي تستمدها من ذاتها دون أن يضيف إليها أية قوة أخرى، وذلك لأن لا صلة تجمعه بالهيكل السياسي"50بل أكثر من ذلك، عوض أن يشد قلوب المواطنين، ينفرها منها، كما ينفرها من متاع الدنيا"51. وعليه، وحسب روسو، فهو مناف للروح الاجتماعية. وبكل اختصار فإن عيبه يكمن في "روحانيته" التي لا تنفع في شد أواصر الهيئة السياسية، وتوحيدها وصيانتها من مخاطر اغتصاب الحكم وإساءة استعماله.
بهذه الطريقة استطاع روسو تفنيذ المألوف من الديانات عند الناس، انطلاقا من معياره السياسي الذي ذكرنا، أو كما يسميه هو "من وجهة نظر سياسية". فالدين لا قيمة له، إذا لم يكن هدفه الأقصى هو حماية الجسم السياسي، وبالتلي الحفاظ عليه، وتلك هي بالضبط المسألة تبرر دعوته الى ما أسماه بالدين المدني( إلى جانب جانب مسائل أخرى سنتطرق إليها في الفصل اللاحق): دين يكون نافعا في حياة الدولة، مدعما لوحدة بنيانها وقوتها، دين يربط المواطن بالدولة دون أن يكون قوميا كالأديان القديمة، ويربط بالألوهة دون أن يتدخل في قضية مصيره بعد الموت. لندع إذن، روسو نفسه يحدثنا عن مضمونه:يقول:"...إن الحق الذي يمنحه الميثاق الاجتماعي للسيادة على الرعيا لا يتجاوز، كما قلت، حدود المنفعة العمومية. فالسيادة لا تحاسب الرعايا على أفكارهم، إلا بشرط أن تكون هذه الأفكار ذات أهمية بالنسبة إلى المجموعة. والحال أن الدولة يهمها بالتأكيد أن يكون لكل مواطن دين يحبب إليه واجباته: غير أن تعاليم هذا الدين لا تهم الدولة، ولا أعضاءها إلا بقدر ما يتعلق بالأخلاق و الواجبات التي يكون معتنق هذا الدين مطالبا نحو الآخرين. ولكل أن يعتنق فيما عدا ذلك، ما طاب له من الافكار دون أن يكون من حق السيادة الإطلاع عليها.
... ثمة إذن عقيدة مدنية بحتة يطالب المواطنون بالجهر بهاويتعين على السيادة أن تضبط بنودها، لا بصفتها معتقدات دينية، إنما بصفتها مشاعر تنم عن روح اجتماعية، يستحيل بدونهاأن يكون المرء مواطنا صالحا أو رعية وفية للدولة. ويحق للسيادة اقصاء كل من لا يعتنقها، وإن لم يكن في إمكانها إكراه أحد على اعتناقها. فهي تقصيه لا بصفته كافرا إنما بصفته معاديا للروح الاجتماعية، وعاجزا عن حب القوانين والعدالة حبا صادقا، وعن التضحية بحياته لدى اقتضاء الحاجة استجابة لنداء الواجب. وإذا وجد من يتصرف بخلاف هذه المعتقدات التي سبق أن اعترف بها على رؤوس الملإ، فليكن له الموت عقابا. فقد ارتكب أبشع الجرائم ألا وهي شهادةالزور امام القانون.
وينبغي أن تكون أركان الدين المدني بسيطة، قليلة العدد: وأن يكون نصها دقيقا، لا يحتمل تفاسير ولا تعاليق. وتتلخص هذه المعتقدات الوضعية في الإيمان بوجود رب قدير، عاقل ، كريم، عليم، مدبر، بوجود حياة بعد الموت يلقى فيها الأبرار النعيم، ويلقى فيها الأشرار العقاب، وبقدسية العقد الاجتماعي والقوانين. أما المعتقدات السلبية، فإني أحصرها في واحد: التعصب وهو ركن تشترك فيه الديانات التي رفضناها.52
تلك هي النظرية السياسية الروسوية- على الأقل في خطوطها العريضة- كما نسج روسو خيوطها. أو تلك- كما يحلو أن يقول- "المبادئ الصحيحة التي ينبني عليها الحق السياسي". ولقد كان بودها ألا تكون مقتصرة فقط على تلك المبادئ: أي الدولة كما هي.كان من الممكن أن تشمل كيف ينبغي أن تكون علاقات هذه الدولة، الخارجية. كما كان من الممكن أن تشمل" حقوق الأشخاص و التجارة، وحق الحرب والغزو، والحق العمومي، والأحلاف والمفاوضات، والمعاهدات، وهلم جرا..."غير أن مجموع هذا كله يشكل" موضوعا جديدا واسعا" قصر نظر روسو على الإلمام به، وذلك ما جعله لا يعنى إلا بما هو في متناوله53.
هل جاءت هذه النظرية من الوجهة النظرية والسياسية مقنعة؟هل تحمل داخلها عناصر تجعلها ضرورية؟ هل تحمل بين طياتها شيئا يجعلها ممكنة التحقق على أرض الواقع؟ أم أنها لا تعدو أن تكون سوى مجرد "قواعد عامة" أو " مبادئ مطلقة" منبثقة أساسا من "طبائع الأشياء" و"قوانين العقل"؟
إنها اسئلة لن نجيب عنها. لا لأنها غير مهمة. بل فقط لأنها تخرج عن إطار مهمة هذا البحث. إن ما يهم الآن هو: ما تريد تلك النظرية أن تقوله-في زمنها-زمن القرن الثامن عشر الذي شكل كما قلنا في تاريخ أوروبا، لحظة تاريخية حاسمةعلى جميع المستويات؟ ما يهم هو محتواها الايديولوجي، أي أبعادها ومقاصدها؟.
أبـــعاد نظـــرية روســـو السيـــاسية:
ليس التساؤل عن أبعاد نظرية روسو السياسية، أي محتواها الايديولوجي، إلا تساؤلا: من جهة، عن الحد الذي إليه تظل تلك النظرية كماهي، شهادة تشفع لروسو، وتسمح له بأن يبقى أنواريا، بالرغم من " مقاومته" للأنوار كما يدعي بعض دارسيه. ومن جهة أخرى، عن المعنى الذي به تعكس تلك النظرية ذلك التحول الذي عرفه القرن الثامن عشر خاصة في جانبه السياسي:أي الانتقال من قداسة السلطة، المفترض فيها أنها تستمد أصولها وشرعيتها من الله، الى السلطة باعتبارها فعلا إنسانيا، إراديا وواعيا، تحكمه حرية الإختيار، والقدرة على الإختيار.
الأمر كذلك، لأن الإجابة عن السؤال الاول، تحتم موقعة تلك النظرية ضمن ايديولوجيا الأنوار، أي ابراز مكانتها ومدى مساهمتها في تكسير صورة العالم القديم التي رسخها النظام القديم . وواضح أن ذلك لن يتم إلا في إطار الحديث عن مضمون تلك النظرية، وعن قسط لا يستهان به من ذلك المحتوى الايديولوجي الذي تحمله في باطنها. ومن جهة أخرى لأن الإجابة عن السؤال الثاني تقتضي الحديث عن الإنتقادات التي وجهها روسو لكل أصحاب نظرية " الحق الإلهي" من جانب أول. وتلك التي وجهها لفقهاء " الحق الطبيعي" من جانب ثان.باعتبار أن كلا الفريقين يكرسان في نظر روسو تلك الصورة التي رسمها النظام القديم حول العالم، والكون، والإنسان، والحقيقة...وهلم جرا، وخاصة في مجال السياسة: أي ما يتصل بفكرة المجتمع، والدولة،والقانون.
وتلك الاعتبارات كلها، هي ما يبرر تقسيم هذا الفصل إلى النقط التالية:
1- موقع روسو ضمن ايديولوجيا الأنوار:
"حتى في مقاومته لفلسفة الأنوار، وفي تغلبه عليها، يبقى روسو ابنا حقيقيا لهذه الأنوار التي حاربها... إنه لم يهدم عالم القرن الثامن عشر، وإنما غير فقط مركز ثقله"
« la philosophie des lumières »E. Cassirer.
"إن روسوهو أيضا أنواري، ومشروعه ليس غريبا إلا ظاهريا، إنه لا يمثل أدنى قطيعة مع فكر الأنوار. فقد تطور ببطء، باستمرار في رحم هذا الفكر ذاته وتغدى من تربته"
« La philosophie des lumières » E. Cassirer.
قد تثير هذه النقطة التي نريد أن نفصل حولها القول بعض الإستغراب: فرب قائل يقول: ما جدوى موقعة روسو ضمن ايديولوجيا الأنوار، وهوالذي عاش في أوجها، أي حتى قبيل الثورة الفرنسية بقليل؟ بل ما جدوى فعل ذلك وقد تبين من خلال عرض نظريته السياسية أنه لا يخرج عن إطار تلك الايديولوجيا؟
حقا إن لهذا الإعتراض وجاهته. لكن مع ذلك لهذه النقطة ما يبررها: فقد كان أول عمل نشره روسو في حياته، هو مؤلف صغير في بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر. يحمل عنوان "خطاب حول العلوم والفنون- Discours sur les sciences et les arts".وكان بمثابة جواب له على سؤال طرحته أكاديمية ديجون،في هذه الصيغة:" فيما إذا كان تجدد العلوم والفنون قد ساهم في تهذيب الاخلاق؟ Si le rétablissement des sciences et des arts a contribué à épurer les mœurs ?. وإذا كان هذا المؤلف يعد بحق أول كتاب أصدره روسو في حياته، وأول مؤلف بالتالي سمح له بولوج الساحة التقافية في ذلك الوقت. فإنه مع ذلك يعد الكتاب الذي جر عليه كل الويلات وكل الإهانات. لا من طرف السلطات أو الحكومات، كما هو الشأن بالنسبة لمؤلفي "العقد" و "إميل" بل من طرف نظرائه من مفكري الأنوار، وخاصة الموسوعيين الفرنسيين.
لقد كان الجواب الذي قدمه روسو للسؤال الذي طرحته الاكاديمية، جوابا "سلبيا" إذ فيه ذهب إلى القول بأنه "بمقدار ما تتقدم فيه علومنا وفنوننا، بمقدار ما تتفسخ أخلاقنا وتفسد نفوسنا وتتعفن1". ولم يقف الامر عند ذلك الحد .بل إن مؤلفه" خطاب حول أصل المساواة بين البشر" قد تعرض لسوء فهم من قبل أصدقائه، إذ بمجرد ماصدر هو الآخرقرأ على أنه دعوة للرجوع الى "حالة الطبيعة" وعلى أنه يقيم تعارضا بين "الطبيعة" و الثقافة". وفي 1758، تأتي رسالته إلى D’Alembert حول " المشاهد المسرحية-Sur les spectacles"، لتفهم على أنها بيان واضح لمواقفه من كل " مظاهر الحضارة"، إذ فيها سيوجه نقدا لاذعا لكل من دالمبير، وفولتير، بصدد عزمهما على إنشاء قاعة للمسرح في جنيف".
إن ما قام به روسو يعني في مجمله، توجيه ضربة قاضية لما كان يعلم جيدا أنه يستحوذ على إعجاب الناس، وما كان زملاؤه من "فلاسفة باريس" " يناضلون" من أجله. وقد كانت مواقفه تلك كافية لأن يشهر به أولئك، باعتباره " المتخلي عن قضية الأنوار" بل " خائنا" و "مرتدا" و" يهوذا الفلسفة" على حد تعبير فولتير.
منذ ذلك الوقت تكرست تلك الصورة لروسو، فلا أحد تناوله بالدراسة إلا اعتبره "مفكرا غريبا" عن عصر الأنوار، ولا باحثا قرأه إلا قرأه في معزل عن جو ذلك العصر. بل منهم من يركز على أن روسو " يقف على حده، على حده بشكل جذري، وسياسته لا يمكن أن تعرض إلا على حده" 2 لكن تبقى تلك الأوصاف مجرد أحكام مطلقة على عواهنها. إذ أن الدارس لكتابات روسو بكيفية عميقة يتبين له أن روسو هو أنواري حتى النخاع، ولا يمكنه أن يكون غير ذلك.
هو كذلك لأن الصورة التي تكونت عن شخصيته وعن كتاباته، في نظرنا، ترجع في جزء كبير منها الى أصدقائه الموسوعيين أنفسهم، وبالأخص فولتير و دولباخ، كما يخبرنا بذلك نص الإعتراف3. ومن جهة أخرى إلى كون فلسفة السياسة، وبالأخص نظريته السياسية لم تفهم في عمقها و أبعادها ووحدتها كما يقول E. Cassirer لا من طرف أصدقائه أولائك، ولا من طرف المهتمين به، الذين أخذوا بما قال به "فلاسفة باريس" في حق روسو، من غير أدنى تمحيص.
ونحن لا نريد سرد ما يتصل بعلاقته بالموسوعيين، وسنكتفي ببعض القراءات الجدية، الناتجة عن الدراسة العميقة لروسو- قام بها بعض الباحثين، ونقصد بهم خاصةLéo Strauss, E. Cassirer, Jean Starobinski.. من حيث كونها جميعا تتفق على الطابع "الثوري" لفلسفة روسو السياسية. وبهذا المعنى تعتبره واحدا من بين أولئك الذين ذهبوا بالأنوار الى مداها الأقصى.
ف L, Strauss يرى أن روسو حين يذم العلوم والفنون، بدعوى أنها تشكل خطرا على الاخلاق، يفعل ذلك وهو حامل لفكرته" الدين المدني" التي سيوردها في مؤلف "العقد"، وليس الدين كمجموعة من الطقوس الكنسية والرهبانية، أو الأخلاق كما أرادت الكنيسة أن تكون. والعلوم التي رفضها روسو، وكال لها كل الهجاء ليست تعني العلوم الفيزيائية او الطبيعية كما هي مجسدة عند نيوتن... أو غيره. بل تلك التي يدعي الفلاسفة أو رجال الدين امتلاكها. إن العلوم التي ينتقدها روسو ويطعن فيها هي تلك التي تدعي لنفسها امتلاك الحقائق المطلقة. وما يؤكد ذلك –حسب L. Strauss هوكونه في نفس "الخطاب" يعتبر كلا من "ف. بيكون"، و"نيوتن"... وغيرهما، المربين الحقيقيين للنوع البشري. فهؤلاء في نظره هم الذين ساهموا في تنوير الشعوب وفي تحقيق سعادتها. إن ما ينبغي تلقينه-حسب روسو- لهذه الشعوب هو الحقائق البسيطة التي تتعلق أساسا بتنظيم الوجود الاجتماعي، والتي تفيدها في حياتها اليومية. و" الحقائق الكبرى" التي يروجها الفلاسفة بعيدة كل البعد عن تحقيق هذا الهدف، لأنها تعلو على عقول الناس العاديين، ولا تفيدهم في شيء. إن الذي يلح –في نظر روسو- على ضرورة بسط هذا النوع من الحقائق أمام أولئك، يكون كمن يلح على وضع أسلحة خطيرة بين يدي مجموعة من الأطفال، إذ سرعان ما تتفجر في أيديهم أو يأذون بها غيرهم.
وعليه، إذن، فإن L.Strauss يرى أن ما يقاومه روسو في "الخطاب" ليس العلوم في حد ذاتها، بل العلوم التي لا تفيد عمليا، وتخصيصا و تحديدا الفلسفة واللاهوت، وكل مل يتصل بهما من فنون... وغير ذلك. وهنا بالضبط يفهم لماذا رفض روسو نفسه تسميته ب" الفيلسوف"، ولماذا أكد في غير موضع أنه ليس إلا "إنسانا شعبيا" أو "عاديا". إن Léo Straussيسجل بأن روسو وحده هو الذي تحققت عنده، وبكيفية واضحة تلك الفكرة التي نادى بها مفكرو الأنوار، أي " الفلسفة الشعبية".
هذا من جهة، أما من جهة أخر، فيرى L. Strauss أن رفض روسو للعلوم والفنون، رفض يحكمه معياره السياسي الذي ذكرناه في الفصل السابق، والذي له علاقة أساسا بنظريته السياسية: فكل شيء- علوما كان هذا الشيء أو غير ذلك-لا قيمة له ما لم يحافظ أو يساهم في الحفاظ على دولة التعاقد الاجتماعي الحقيقي.فالفلسفة- في معناها الميتافيزيقي- في نظره تضعف " الروح الوطنية L’esprit patriotique" و" الروح الحربية L’esprit guerrier" لدى المواطن.كونها تتصف بالكونية. فالفلاسفة يدخلون أفكارا جديدة على عقول الناس، أفكارا قد تفضي بهم الى التشكك في ما أخذوه على أنفسهم من عهود ومواثيق، تجاه" الإرادة العامة" وروسو يرفض كل ما من شأنه أن يخل بالتعاقد الإجتماعي. وأكثر من هذا كله فإن مقاومة روسو للعلوم والفنون لحساب الأخلاق وخاصة الفضيلة هو دفاع عن "الفضيلة السياسية" وليس شيئا آخر أي الفضيلة المدنية كما تتحدد داخل "المجتمع المدني" المبني أساسا على التعاقد الصحيح.
إن روسو-حسب- Strauss يميز بشكل واضح بين " الطيبوبة" -"La bonté" و "الفضيلة-La vertu". الاولى تخص الإنسان ككائن طبيعي، بينما الثانية تخصه كمواطن. هذا الأخير الذي لا يدرك إلا داخل عالم يدرك معاني كل من الحرية والإرادة والإختيار والمساواة في الحقوق والواجبات، وداخل نسق فكري يؤمن لأن المصلحة الخاصة متضمنة، بحسب منطق الأشياء، داخل المصلحة العامة. أو بعبارة أكثر وضوحا: داخل بنية اجتماعية وسياسية لها اسمها الدال عليها، هو "المجتمع المدني" الذي يسميه روسو كما رأينا " الجسد السياسي" أو "الدولة" أو " السيادة"4
أما بالنسبة لE . Cassirer فهو الآخر يذهب في قراءته لروسو الى تأكيد نفس الأفكار التي تعرض لها L. Strauss فهو يعتبر موقف روسو من العلوم والفنون موقفا كله متماسكا ومتعاضدا مع ما أورده روسو في كتاب "العقد". كما يقول بأن الخطابين: "خطاب حول العلوم والفنون"، و"خطاب حول أصل المساواة بين البشر" لا يشكلان أي قطيعة مع كتاب " العقد" فهذا الأخير في نظره تطوير لما سبق أن تناوله، خاصة في الخطاب الثاني، وحل للإشكالات التي أثارها فيه. فصحيح يقول E . Cassirer أن روسو قد ذم العلوم والفنون، وصحيح كذلك أنه مجد "حالة الطبيعة". لكنه صحيح كذلك أنه لم يقل بالعودة أو الرجوع الى تلك الحالة التي تفتقر لكل فن وعلم ومعرفة. بل نادى بتأسيس المجتمع على أساس سليم، والذي عنده لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير التعاقد الاجتماعي الحقيقي.
ويرى E. Cassirer بأن كلام روسو لا يحتمل التأويل، وكل مصيبته تكمن في كونه لم يعرف كيف يوصل أفكاره الى البشر. فهو في نظره قد أدرك نفسه تلك المسألة، أي انعدام أسباب التفاهم بينه وبين أولئك. إن روسو في نظر E.Cassirer قد أكد في غير موضع، وفي أكثر نصوص كتاباته، أنه ال ينبغي أن يستخلص من رفضه للعلوم أنه ينبغي إحراق المكتبات، وتدمير الجامعات، والأكاديميات، والمسارح...لأنه يدرك جيدا أن ذلك لن يفضي إلا الى إغراق الكون في بربريته الأولى. كما لا ينبغي أن يفهم من اعتبار "حالة الطبيعة" حالة سعادة وبراءة، نوعا من الدعوة الى التقهقر نحو الوراء، إذ الطبيعة في نظر روسولا تتقهقر، ولا يمكن بالتالي الرجوع الى أزمنة البراءة تلك*.
وبعد دفع التأويلات الخاطئة التي أعطيت لكتابات روسو، يذهب E. Cassirer الى اعتبار نظريته السياسية، نظرية تتمتع بجدة تاريخية، بالمقارنة مع كتابات مفكري الأنوار.إذ هي تحتوي داخلها-وبكيفية قوية- كل الإعتراضات والانتقادات التي انتصبت ضد نظام الحكم المطلق ومساوئه من طرف أولئك. ففي نظره، إن الوضع السياسي قد صدم فعلا مفكري الأنوار، فأدانوه وانتقدوه، لكن لا أحد منهم استطاع أن يذهب بهذا النقد إلى درجة أن يصبح نقدا للوجود الاجتماعي والسياسي والثقافي من حيث هو كذلك، أي في كليته.
فصحيح- يقولE. Cassirer- "أن كل القرن الثامن عشر مفعم بأرادة عميقة وصادقة للإصلاح". لكن صحيح كذلك أن" إرادة الإصلاح هاته لا تذهب الى حد صياغة متطلبات ثورية سواء في مجال الأشياء الخارجية، أو في مجال "الروح" كما هو الشأن عند روسو"5."إن الفلاسفة الموسوعيين-يقولE. Cassirer يريدون أن يصلحوا ويعالجوا، لكن لا أحد منهم تقريبا اعتقد في ضرورة أو إمكانية تغيير جذري، وتجديد شامل.إنه يكفيهم أن نصل الى إزالة المفاسد المتفاقمة، ونقود البشرية شيئا فشيئا الى ظروف سياسية أمثل. إن هذا التعارض الأساسي بين روسو والموسوعيين قد تجلى بكيفية واضحة في الحكم الذي أصدره دالمبير على "إميل" روسو: "إنه من العبث" (هكذا كان اعتراض دالمبير على روسو) أن نأخذ في نقد مساوئ المجتمع نقدا لاذعا. إن على الفيلسوف أن يبحث عن العلاج. آخذا في الإعتبار جيدا كل مرة، ان المسألة لن تعدو أن تكون سوى مهدآت أو ملطفات. إن الأمر لا يتعلق بالتغلب على العدو. إنه سابق لأوانه أن نشرع في طرده، إن الأمر يتعلق باستدراجه الى النزاع".6
إن روح المساومة هذه، التي تطبع كتابات مفكري الأنوار-خاصة الفرنسيين منهم- بالمقارنة مع نظيرتها عند روسو، هي ما يؤكده كل من "ف. فولغين"*و J. Starobinski حيث يقول هذا الاخير: " لقد أراد روسو ان يتبين مبدأ الشر، فاتهم المجتمع والنظام الاجتماعي في كليته. إن العمل النقدي عنده لا ينبغي أن يتبدد، أو يعتبر كمهمة له مهاجمة مظاهر الشر واحدة واحدة. بل ينبغي أن يبحث له عن علة عامة، تعفيه من مواجهة كل المساوئ، والاغتصابات والتضليلات كل واحدة على حدة"7. ف" بالنسبة لروسو ليس هناك تفاهم مع المجتمع، إنه لا يقبل محاولات الإصلاح التي لا تنطبق إلا على الأعراض الخارجية. إنه يرفض كل حل جزئي منذ الوهلة الأولى. وفي كل عبارة من عباراته لا يفكر إلا في الكل. لأن وظيفة الدولة بالنسبة إليه ليست تكمن في توليد السعادة وصيانتها، ولا حتى في الدفاع أو الزيادة في القوة. إنه يعارض فكرة الدولة باعتبارها مؤسسة"خيرية"، أو مؤسسة قوة، بفكرة الدولة المؤسسة على القانون. ولهذا بالضبط لا يقبل زيادة أو نقصانا.إنه يطالب ب"نعم" أو "لا" قاطعتين"8.
يؤكد E .Cassirer على الطابع "الثوري" لكتابات روسو، وبالأخص نظريته السياسية، التي تشكل جوهر تلك الكتابات. فهو يعتبرها كمشروع يهدف أساسا إلى تغيير جذري يطال كل ما يرتبط بهذه المؤسسات التي يرعاها النظام المطلق، تغيير جذري يطال كل ما يرتبط بهذه المؤسسات نفسها، من علوم ن وفنونن وآداب ، وأخلاق ...الى غير ذلك. وهنا تتضح -كما يقول- أبعاد مواقفه من العلوم، والفنون، وبالأخص من المسرح ذلك، أن المسرح لا يتجاوز عتبة إثارة الإعجاب، وهدهدة الذوق العام. ومنتجه في نظره لا يغير أخلاق الجمهور بل فقط يلتزم بها. إنه في نظر روسو لوحة للعواطف الإنسانية التي تتغير حسب طبيعة الجمهور،كونه لا يخلق العواطفو الميول، و إنما يعكس الموجود منها فقط. وهذا في نظره ما يجعله قليل الأهمية خاصة في مجتمع تأسس على المكر والخداع ويحتاج الى التغيير.
حصاد القول، إذن، يقول E. Cassirer أن منشأ الإختلاف بين روسو ومفكري الأنوار يكمن اساسا لا في مضمون فكره، بل في طريقة تفسيره وتعليله." إنه لا يبعد عن عصر الأنوار بالمثل السياسية التي دافع عنها، بل بطريقة استنتاجه العقلي لتلك المثل"9
2- في الرد على أصحاب نظرية " الحق الإلهي":
" قدم مذهب "الحق الإلهي"... دعما مدهشا ذا طابع عاطفي وديني للنظرية القانونية الباردة في السيادة... لكن هذه النظرية بمفردها، التي كرست بشكل أصولي، كانت تكفي لتضع السلطة بمنآى عن كل طعن أو مقاومة شرعية".
"تاريخ الفكر السياسي-ج ج شوفالييه"
" لم أقل شيئا عن آدم الملك، ولا عن نوح الإمبراطور، الذي كان ابا لثلاثة أباطرة عظام تقاسموا الكون فيما بينهم، كما فعل أبناء "ساتورنس" الذين وهم البعض توسم ملامحهم فيهم. وإني لأرجوأن يعترف لي بالتواضع، فبا نحداري مباشرة من أحد هؤلاء الملوك، وربما من الفرع البكر، لا يستبعد أن أكون بعد تحقيق الرسوم، الملك الشرعي للجنس البشري"
" في العقد الإجتماعي-ج ج روسو".
ربما لن نكون في حاجة الى التذكير بأن النقطة التي فصلنا حولها القول في هذا الفصل، تندرج أساسا ضمن الاجابة عن السؤال الأول الذي طرحناه في بدايته*. أي الإجابةعن الكيفية التي بها تسمح تلك النظرية لروسو بأن يكون أنواريا، والحد الذي إليه تجسد شهادة على أنواريته أو تنوره. وعليه، فهذه النقطة التي نحن بصددها الآن –كما الأخرى التي ستليها- تندرج ضمن الإجابة عن السؤال الثاني الذي طرحناه في تلك البداية. أي التساؤل حول الكيفية اتي بها تعكس نظرية روسو ذلك التحول الذي شهده القرن الثامن عشر، خاصة في جانبه السياسي: أي الانتقال من قداسة السلطة إلى السلطة باعتبارها فعلا انسانيا، باعتبارها تعاقدا اجتماعيا تحكمه الارادة والوعي والاختيار.
لكن هذا لا يعني أننا سنرجع إلى النظرية الروسوية لتفصيل القول حول عناصرها الجزئية. إذ هي على كل حال، تبقى في مجموعها شاهدة ومحققة لذلك التحول: حيث إن فعل التعاقد بالكيفية التي تمت به صياغته من قبل روسو، والمعاني التي أصبحت تتمتع بها كل من الحرية، والمواطن، والأخلاق... وكذا الوظيفة التي أصبح الدين منوطا بها... كل ذلك يجيز القول بأن نظرية روسو قد استطاعت تقويض كل ما هو مألوف على المستوى السياسي، كما على المستوى العقدي: أي ما درج الناس على اعتباره مقدسا ومطلقا، طيلة قرون عديدة.
إننا لن نفعل ذلك، بل سنحاول أن نبين كيف دحظ روسو تلك "السخافة"، التي كان مفكرو الانوار يعتبرونها "زائدة بالية"، أي نظرية "الحق الالهي"، أو فكرة التفويض الالهي للسلطة.
وما تجدر إليه الإشارة، منذ البداية، هو أن روسو –وهو ينشئ- نظريته السياسية- يرد على أصحاب تلك النظرية دون تسميتهم لكن بالاعتماد على بعض كتبه الأخرى، نستطيع القول بأن ردوده وانتقاداته، موجهة أساسا ضد كل من Boussuet و Filmer: ورد اسم الأول في مقالة روسو حول "الاقتصاد السياسي" في الموسوعة بينما يخبرنا نص الاعتراف –أي اعترافات روسو- بأن من بين أهم الكتب التي أطلع عليها روسو في بداية حياته، كتابات Boussuet10. أما الرائد الثالث لهذه النظرية، أي Ramsay فلم يذكره على الاطلاق.
وعلى كل حال، فإن مؤلف Filmer المعنون ب "سلطة الملوك الطبيعية-The natural power of kwgs "، الصادر سنة 1680 هو الذي نجد فيه عرضا مفصلا حول فكرة التفويض الالهي للسلطة، أو "نظرية الحق الالهي للملوك". هذا الحق الذي استطاع هؤلاء الآخيرين بعد جهد طويل التمتع به بعد تمكنهم من الافلات من سلطة الكنيسة وبعد نجاحهم في الهرب من اسارها المحكم، وذلك بالتأكيد على أن سلطتهم هي تجسيد لسلطة الأب-الاله ذاته، والتأكيد على أنها تبعا لذلك لا يمكنها أن تكون إلا إلهية من جهة أولى، وأبوية من جهة ثانية. وبالتالي فلا سبيل للخروج عنها أو عليها بدون الخروج على ما كان مقدسا في جهته الأولى، وما كان طبيعيا في جهته الثانية، وهي نفس الأطروحة التي سيدافع عنها الرائدان الاخران أي Boussuet و Ramsay في كتابيهما على التوالي: "السياسة المستقاة من كلام الكـتاب المــقدس، La politique tirée des paroles de l’écriture sainte(1709)، و"بحث فلسفي في الحكم المدني، le gouvernement civil، (1719).
لقد اجتهد هؤلاء الثلاثة في التأكيد على الصلة بين السلطة الابيوية والسلطة السياسية. وحتى يتم لهم ذلك انطلقوا كلهم من فرضية مفادها: أن الأسرة هي الشكل الأول للاجتماع البشري وأكثرها اقترابا من الطبيعة. ولكن المجتمع البشري –بالتبعبة- ليس سوى صورة مكبرة لذلك الاجتماع الطبيعي الأول. ووفقا لتلك الفرضية ذهبوا إلى القول بأن الحاكم لا يمكن أن يكون سوى بمثابة الأب في الأسرة كما الشعوب بمثابة الابناء. والقول بهذا حسبهم، يعني من بين ما يعني أن الشعوب ينبغي أن يجري عليها من طرف حكامها أو ملوكها ما يجري على الابناء من قبل آبائهم.
إن التماثل بين الملوك والآباء من جهة، وبين الشعوب والابناء من جهة أخرى، إن هذا التماثل يستمد حسب هؤلاء شرعيته، من كون الناس لا يولدون مستقلين ومتساوين، بل يولدون بالطبيعة وهم في تبعية بعضهم للبعض الآخر. بعضهم يولد بالطبيعة ليكون قائدا وحاكما، والبعض يولد بالطبيعة نفسها ليكون مقودا ومحكوما. والذي يتحدث عن المساواة في نظر هؤلاء يغفل أنه، قبل أي عقد أو تعاقد، كان هناك خضوع طبيعي وتبعية ضرورية تجعل الأبناء تحت سلطة آبائهم. يقول Ramsay : "إن الناس يولدون غير متساوين... وكل حالة للمساواة والاستقلال. يحصل فيها الناس على حق مساو في الحكم والقيادة، ستكون مضادة لنظام النشأة –ordre de génération11 "ويضيف "... إنه وفقا للنظام الالهي والانساني... يعد الآباء مسؤولين أمام الله وأمام الناس على ما يفعله أبناؤهم قبل سن الرشد. وكل رب أسرة، قبل أي تعاقد، له الحق في حكم أبنائه. وهؤلاء الآخرين يجب عليهم احترامه... حتى بعد سن الرشد، باعتباره صانع ولادتهم وسبب تربيتهم"12
ولا يقف هؤلاء عند هذا الحد بل يذهبون إلى التأكيد على أنه مع مر السنين وتعاقب الأزمان، تحولت هذه السلطة الأبوية الطبيعيةإلى السلطة السياسية. يقول Boussuet :"...هكذا فإن أول فكرة للحكم والسلطة الإنسانية قد انحدرت للناس من السلطة الأبوية"13 ، إذ "على شكل السلطة الأبوية تتأسس السلطة السياسية"14.
إن هذه السلطة في نظر هؤلاء ليست إلا الملكية نفسها، ذلك أنه" لنفس السبب الذي به ظهرت السلطة الأبوية، ظهرت الملكية قبل أي شكل من أشكال الحكم"15. والفضل في ذلك يرجع في نظر Boussuet الى "كون الناس يولدون كأفراد، والسلطة الأبوية هي التي تعودهم على الطاعة، وتعودهم في ذات الوقت، على ألا يكون لهم إلا حاكما واحدا"16.
إن القول بأن أصل السلطة الملكية، هو السلطة الأبوية، يعني حسب منطق هؤلاء-وخاصة Boussuet- ان تلك السلطة الملكية تتمتع وتحافظ على ملامح أصلها ذاك وتبقى في الأساس سلطة ابوية. أي أن واجبات الشعوب تجاه ملوكها هي كواجبات الأبناء تجاه آبائهم. وهذا يعني في مجمله أنه ما دام الأبناء ملتزمون بالطاعة والاحترام تجاه آبائهم، حتى وإن أساء هؤلاء إليهم، فإن من المفروض على الشعوب أن تلتزم بنفس الشيء، أي الطاعة والاحترام تجاه الملوك. وحتى ولو ظهر من عنت الملوك وقوتهم ما قد ترى فيه الرعية ظلما لا يطاق، فإنه ليس لها أن تتذمر أو ترفع صوتها بالاحتجاج والمقاومة . وحتى إن فعلت ذلك فب"شكاوي ملؤها الاحترام من غير تشغيب ولا فتنة، أو بدعوات صالحة لهم بالهدايا والرشاد". ومبرر ذلك في رأي Boussuet أن " ليس هناك من علاج لظلم الملوك إلا في سلطتهم"17 كل ذلك يحق للملوك في نظر Boussuet لا لشيء إلا لأن "الملوك يأخذون مكان الله الذي هو الأب الحق للنوع البشري"18.
تلك كانت الأطروحة التي ظل يدافع أولئك الثلاثة عنها، بل إن Boussuet خاصة، سيفني حياته وهو ينسج خيوطها كمنظر لولي العهد( ابن لويس الرابع عشر)من أجل إضفاء ذلك الطابع الإطلاقي عليها. وإذا كان الفيلسوف الإنجليزي "لوك" قد تصدى لها كما تم طرحها من طرف Filmer في كتابه" في الحكم المدني"*، وحاول تكسيرها وتبيان عقمها وعدم صلاحيتها.فإن روسو كواحد من مفكري الأنوار سيتصدى لها، دون الإحالة الى أصحابها، وبكيفية أقوى من "لوك".
لقد أدرك روسو بالقدر الذي كان فيه معبرا عن طموحات البورجوازية الصاعدة، وعن رغباتها، جوانب التضليل التي تنطوي عليها تلك المماثلة بين الاب والحاكم/الإلاه ذاته، من جهة، وبين الأسرة والمجتمع البشري(أو الشعب) من جهة أخرى. فراح ينتقدها نقذا لاذعا. والغريب في الأمر أن السواد الاعظم من مفكري الأنوار، بالرغم من كونهم قد اعتبروها "سخافة زائدة"، وبالرغم من كونهم أدانوها واعلنوا رفضهم لها، وبالرغم من كونهم قالوا بمبدإ التعاقد ... بالرغم من ذلك كله، فإن لا أحد منهم استطاع ضم كل تلك الأجزاء لتأسيس نظرية سياسية متماسكة كالنظرية السياسية الروسوية، لتجاوز تلك الفكرة: فكرة التفويض الإلهي للسلطة التي روجها أولئك، والتي ظلت تخنق كل الكتابات السياسية طيلة القرون الوسطى. وقد لا نبتعد عن الصواب إذا قلنا، إن أصالة روسو الحقيقية، وأهميته الأساسية تكمن-إلى جانب ماأبرزناه في النقطة الأولى من هذا الفصل-في هذه المسألة بالضبط. بل بإمكاننا القول بأنها وحدها-الى جانب ما سطره لوك في مؤلفه" في الحكم المدني"-التي تعكس ذلك الانتقال الذي تحذثنا عنه في الفصل الأول: أي الإنتقال من قداسة السلطة الى السلطة باعتبارها فعلا انسانيا اراديا وواعيا، من سلطة الملوك المفترض فيها أنها منحدرة بالطبيعة من الأب/الإله ذاته: الى السلطة باعتبارها صادرة ونابعة من البشر، لتصب في البشر.
بإمكاننا ان نرصد مقاومة روسو ونقده لأولئك في كل من مقالته "الاقتصاد السياسي" كما في مؤلفه" أصل التفاوت بين البشر" وكذا في مؤلفه" في العقد الاجتماعي". وفي هذا الأخير نجده أكثر عنفا في نقده بالمقارنة مع المؤلفين الأولين.
يقرر روسو منذ البداية ، موافقا بذلك الفرضية التي انطلق منها أصحاب نظرية " الحق الإلهي "بأن الأسرة هي أقدم المجتمعات البشرية وأكثر أشكالها طبيعية".لكنه يضيف معلقا،بأن" ارتباطالأبناء بالأب لا يدوم إلا طالما امتدت حاجتهم إليه لحفظ بقائهم، وحالما تنقطع هذه الحاجة تذوب الرابطة الطبيعية، وإذاك يصبح الأبناء-وهم في حل من واجب الطاعة- والأب- وهو في حل من واجب الرعاية-يصبح جميعهم مستقلين على التساوي، وإذا استمر اتحادهم بعدئذ، فليس ذلك بالفطرة، إنما بالإرادة، والأسرة نفسها لا يستمر بقاؤها إلا على أساس الاتفاق"19.
إن ما يلفت الانتباه عند روسو حقا، هو كونه قد تعقب فرضيات أصحاب "نظرية الحق الالهي" واحدة واحدة، بالرغم من كون نقده لهم جاء متفرقا، فبعد تفنيد الفرضية الأولى التي انطلق منها أولئك، والتي مفادها، ان هناك قبل أي عقد أو تعاقد، تبعية طبيعية أو خضوعا ضروريا بين الأبناء والآباء. يحاول تفنيد الفرضية الثانية التي تقول بانحدار السلطة السياسية من تلك السلطة الأبوية. ذاهبا الى القول بأن هناك فرقا شاسعا بين تينك السلطتين- حتى وان افترضنا وجود الاولى-كذاك الفرق الموجود بين "عالم الرهبة والضرورة، وعالم الحرية والعقل" يقول:"... الأسرة إن شئنا، أول نموذج للمجتمعات السياسية، فالرئيس عبارة عن الأب، والشعب عبارة عن الأبناء، وبما انهم جميعا ولدوا متساوين وأحرارا، فهم لا يتنازلون عن حريتهم إلا من أجل منفعتهم. وكل ما هنالك من الفروق أن محبة الأب للأبناء داخل الأسرة، خير مقابل للعناية التي يوليها إياهم، بينما تمثل لذة القيادة داخل الدولة بديلا عن مثل تلك المحبة التي لا يكنها الرئيس لشعوبه"20.
وفيما يخص الفرضية الثالثة( النتيجة كذلك) التي بموجبها أقر أولئك بأن السلطة السياسية (او الملكية )هي بمثابة سلطة الله العادلة، بحكم أن الملوك قد أخذوا مكانه في الأرض، فيوافقهم روسو في جزء من افتراضهم ذاك ( أي كون الله عادلا)، لكن لم يمنعه ذلك من الإقرار بضرورة الاتفاق بين البشر والتعاقد بينهم، ذلك أن قوانين الله العادلة نفسها تلزمها محاسبة الطبيعة( البشر) حتى تتصف بتلك الصفة، ويضمن لها الاستمرار على الأرض، يقول روسو:"كل عدالة آتية من الله، وهو منبعها الوحيد. ولو كان في إمكاننا تقبلها من علياء ذياك المقام، لما كنا في حاجة الى حكومة ولا الى قوانين. ولا شك أن هناك عدالة مكنونة في سجايا الناس قاطبة، ومنبثقة من العقل وحده. لكن من الضروري أن يعمل بها الجميع لكي يسلم بها الجميع. فلو اعتبرنا الامور من وجهة نظر إنسانية لرأينا أن قوانين العدالة تظل عديمة الجدوى ما دامت تعوزها محاسبة الطبيعة. إنها لا تعود بغير الخير للشرير، والشر للخير، إذ كان هذا الأخير ينتهجها في علاقاته مع الجميع، في حين أن لا أحد يتبعها في علاقاته معه. يتحتم إذن إبرام اتفاقيات وسن قوانين لضم الحقوق الى الواجبات وتحقيق العدالة على الأرض.ففي حالة الطبيعة حيث كل شيء مشترك، لست مدينا بشيء لمن لم أعده بشيء، ولا اعترف لغيري بما ليس لي فيه نفع، أما في حالة المجتمع فالأمر خلاف ذلك، فالحقوق هنا يضبطها كلها القانون"21
ولم يغفل روسو كذلك، دحض النتائج التي انتهى إليها أولئك بمقتضى فرضياتهم تلك. ونقصد مدى حقوق الشعوب تجاه ملوكها. فنحن نتذكر أن Boussuet قد نفى نفيا جذريا كل حق في مقاومتهم، اللهم إلا بالشكاوي والتضرعات والدعاء لهم بالهداية والرشاد. يقول روسو بصدد هذه المسالة: "...إن هذه الصعاب لم تفت كتابنا، لكنهم لم يتبرموا منها قط، فالعلاج حسب ما يقولون، في الطاعة العمياء دون تذمر. فالله هو الذي يرسل ملوك السوء إذا انصب غضبه على قوم. وعليهم أن يصبروا على بلواهم، وأن يروا فيه عقاب السماء. لا شك في أن مثل هذا الكلام بليغ ومؤثر في النفس، غير أنه في ظني يؤاتي منابر الوعاظ والقساوسة أكثر مما يؤاتي كتابا في السياسة. ما القول في طبيب يعد المعجزات، ويتلخص كل طبه في نصح السقيم على الصبر على البلوى؟ من المعلوم علم اليقين أنه لابد من الصبر على حكومة فاسدة إذا حلت، غير أن المسألة هي أن نبحث عن حكومة صالحة"22.
3- في الرد على أصحاب نظرية "الحق الطبيعي":
"يقول غروتيوس أن في إمكان شعب أن يهب نفسه لملك.إذن لقد كان هذا الشعب شعبا حسب غروتيوس قبل ان يهب نفسه لملك. وهذه الهبة نفسها فعل مدني، وتفترض مداولة عمومية. فقبل أن نتفحص الفعل الذي ينتخب به الشعب ملكا، يحسن بنا إذن أن نتفحص الفعل الذي يكون به الشعب شعبا. ذلك لأن هذا الفعل الذي يسبق الآخر ضرورة يشكل الأساس الحقيقي الوحيد الذي ينبني عليه المجتمع".
" في العقد الاجتماعي-روسو."
" إن الزعم الذي يفرض القول بأن انسانا ما يهب نفسه مجانا هو ضرب من اللامعقول، ويستحيل تصوره. فمثل هذا الفعل لا شرعي ولاغ لمجرد ان الذي يقوم به يفقد الحس السليم، وإذا قبل نفس الشيء عن شعب برمته فالأمر يفترض شعبا من المجانين، وما كان الجنون يوما أساسا للحق... ختاما أقول إن اتفاقية تنص على السلطة المطلقة من طرف، وعلى الطاعة اللامحدودة من الطرف المقابل، لهي اتفاقية متناقضة وواهية".
" في العقد الاجتماعي-روسو".
ليست نظرية روسو السياسية، تقويضا لما درج عليه الناس طيلة العصور الوسطى بل هي تطال في اكثر جوانبها ما درج عليه هؤلاء، حتى في القرن السابع عشر،الذي اعتبر عصر "الثقة التلقائية في العقل". إنها تقويض وتجاوز كذلك لأهم نظرية نسجت خلال ذلك القرن، في الحقل السياسي: أي نظرية "الحق الطبيعي".
فإذا استطاعت هذه النظرية الأخيرة، كما يقول البعض، أن تتجاوز أطروحة " الحق الالهي للملوك"فإنها في نظر روسو، لا تختلف عنها بالشيء الكثير: إذ كلاهما تهدفان الى جعل الشعوب في حالة تبعية وخضوع لا تليق إلا بالأطفال.23
لقد كان جوهر الأطروحة التي تقدم بها فقهاء "الحق الطبيعي" خاصة غروتيوس وبوفاندورف، أن لا مناص في سبيل تأسيس السلطة السياسية، من التزام البشر بميثاقين اثنين، يدرج بينهما مرسوم décret، يجعلهما متكاملان، ويفضي الواحد الى الآخر بالضرورة:
* الميثاق الأول: بموجبه يؤسس البشر " المجتمع المدني" بتعهد كل شخص، بأن لا يشكل مع أقرانه إلا جسما واحدا، وتنظيم كل ما يتعلق بحفظهم وأمنهم. أو بعبارة أخرى، التعهد بالتعاون والاتحاد فيما بينهم.
* المرسوم: الذي يعد بالأكثرية بعد اقرار الاتحاد، ومهمته تحديد شكل الحكم.
* الميثاق الثاني: بموجبه يعد المحكومون حكامهم بطاعة مخلصة مقابل تعهد هؤلاء بالسهر على الخير العام.
الميثاق الأول حسب الفقيهين، إذن، ليس إلا ميثاقا للإتحاد بين البشر –Pacte d’union، بينما الثاني ليس إلا ميثاق خضوع-Pacte de soumission: خضوع البشر لسلطة الحكام الرادعة والزاجرة وهو الميثاق الأهم في نظرهما. وأهميته تستمد من كون الطبيعة الإنسانية –حتى وان اتحد البشر-تظل دائما في حاجة الى قوة زاجرة تردعها وترغمها على الالتزام باحترام "قوانين الطبيعة" وعليه فإن على أولئك مبايعتها، والتنازل لها عن حريتهم التي يملكون بموجب حقوقهم الطبيعية. وتبعا لذلك، فإن الشعب الذي يعين عليه حاكما- ملكا كان أم رئيسا- يجوز له أن يصبح عبدا رقيقا لذلك الحاكم.
لقد استخلص بوفاندورف صيغة التعاقد تلك من فرضية مفادها أن الانسان بإمكانه أن ينقل ما يملكه لغيره، بمقتضى اتفاقية معينة ومادام الامر كذلك، فعنده، بإمكان هذا الإنسان أن يجرد نفسه من حريته. باعتبار أن هذه الحرية نفسها لا تخرج عن إطار ما يملكه أي كونها تعد من الممتلكات التي يجوز التصرف فيها إما بتفويتها أو نقلها الى الآخرين.
أما بالنسبة لغروتيوس فقد استمد تلك الصيغة من الحرب*. فهذه في نظره، مصدر لحق الاسترقاق، إذ مادام للغالب حق قتل المغلوب، فيستطيع هذاالأخير استبقاء حياته مقابل التنازل عن حريته، وهي حسبه اتفاقية شرعية، لاسيما وأنها في صالح كليهما. وهذاالحق –حق الاسترقاق أو الاستعباد-لا يجري، عند غروتيوس، على الانسان الفرد أو المفرد فقط. بل ينسحب على الشعب بأكمله. فالأمير أو الملك الذي يغزو شعبا ويهزمه، من حقه مقابل الحفاظ على حياة أفراد هذا الشعب أن يتولى أمرهم، ويترأسهم بتنازلهم عن حريتهم هم الآخرون.
لقد تفحص روسو هذه الصيغة التي اقترحها الفقيهان، ولم ينته إلا الى هذه النتيجة: التعاقد حسبهما ليس إلا التنازل الإرادي والتلقائي عن الحقوق الطبيعية والخضوع لسلطة الحكام. فلم ير في ذلك كله إلا اقرارا بضياع الحرية وفقدانها، في الوقت الذي كان ينبغي أن تكون الغاية القصوى منه هي حفظ هذه الحرية وصيانتها.
إن الفقيهين، حسب روسو لم يبتكرا أي جديد، وهما أكثر من ذلك لم يدركا أن الصيغة التي اقترحاها ليست إلا تكريسا لنفس العقد ( المزيف) الذي اهتدى إليه الأغنياء حينما رأوا مصالحهم معرضة للهلاك، من طرف الذين آلت حالهم الى العوز والفقر. أن مافعلاه ليس إلا تعبيرا عن إعادة تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الأسياد والعبيد، وبالتالي التعبير عن تنظيم يسعى إلى إحلال السلام ضمن اللامساواة القائمة والسائدة، فهما في نهاية التحليل لم يخلقا سوى نظام تكون فيه المصلحة للزعماء والرؤساء أكثر مما هي لأفراد الشعب. إنهما في الاخير لم يبتكرا سوى خطة تفوق في بعض عناصرها تلك التي ابتكرها الأغنياء حينما عزموا الإيقاع بالفقراء*.
إن روسو في نقده لهذين الفقيهين، يسلك نفس المنهج الذي سلكه مع أصحاب نظرية "الحق الإلهي". فهو يتعقب فرضياتهم واحدة واحدة، كما النتائج التي استخلصوها من هذه الفرضيات:
يقول بخصوص دعوى بوفاندورف:" يقول بوفاندورف: إنه كما ينقل الانسان ملكية ماله الى آخرين بمقتضى عهود وعقود، كذلك يمكنه أن يجرد نفسه من حريته لمصلحة غيره.يلوح لي أن هذا قياس فاسد، وذلك، أولا لأن المال الذي أبيعه يصبح بالنسبة إلي غريبا عني، ويغدو سوء استعماله أمرا لا يعنيني. ولكن مما يهمني ألا يساء استعمال حريتي، ولا يمكنني، دون أن اتحمل وزر الذنب الذي سأرغم على اقترافه، أن أعرض نفسي لتكون أداة الجريمة. وزد على ذلك أن حق الملكية، إذ لم يكن إلا نتيجة عهد، وما أنشأه الناس، فإن كل إنسان يمكنه أن يتصرف في ما يحوزه كما يطيب له. ولكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بهبات الطبيعة الجوهرية، كمثل الحياة والحريةاللتين يباح لكل إنسان أن يتمتع بهما ، واللتين من المشكوك فيه، على الأقل، أن يكون له الحق بحرمان نفسه إياهما: فحرمان النفس الواحدة منهما إذلال لكيانه، والتخلص من الأخرىملاشاة لها ما دامت فيه. واما إذ ليس من خير دنيوي يمكن أن يعوض عن هذه وعن تلك. فإن التنازل عن إحداهما أيا كان الثمن، هو إهانة للطبيعة والعقل"24.
أما بالنسبة لحق الاستعباد الذي قال به غرتيوس، فيعتبره روسو باطلا، لا لأنه غير شرعي فقط، بل لأنه لا معقول، إذ أن كلمتي استرقاق وحق"متناقضان ومتنافيتان فيما بينهما". وبخصوص دعواه القائلة بأن هذا الحق يستمد أصله وشرعيته من الحرب اوالغزو، فلا يرى روسو في ذلك إلا نوعا من اللف والدوران، ونوعا من السفسطة، ذلك أن الحرب في نظر روسو :" ليست بالمرة علاقة بين انسان وانسان، إنما هي علاقة بين دولة ودولة، لا يكون الخواص فيها أعداء إلا عرضا، وبمحض الصدفة، ولا يكونون كذلك من حيث هم بشر، حتى ولا من حيث هم مواطنون، إنما كجنود. ولا بصفتهم أعضاء للوطن، وإنما كذائدين عنه"وأنه "لا يمكن أن يكون لأية دولة أعداء إلا من بين دول أخرى- لا من بين الأفراد-نظرا الى أنه لا يمكن عقد أية علاقة بالمعنى الصحيح بين أشياء تختلف في طبيعتها". وأكثر من ذلك يرى روسو أنه " بما ان غاية الحرب تحطيم الدولة العدوة، يحق قتل الذائدين عنها ما داموا يحملون السلاح. لكن حالما يلقون بسلاحهم، ويسلمون أنفسهم، يكفون عن كونهم أعداء أو أدوات العدو ويعودون من جديد بشرا لا غير، فلا يحق بعد التصرف في حياتهم، بل يمكن أحيانا تدمير الدولة دون قتل أي واحد من أعضائها، لأن الحرب لا تمنح أي حق لا يكون ضروريا لغايتها"25.
وبغض النظر عن كل هذه الحجج، فإن روسو لا يوافق على أن تكون صيغة التعاقد على ذلك الشكل، مهما كانت الاصول التي تستمد منها شرعيتها. إذ في نظره بمجرد أن يعد الشعب " ببساطة أن يطيع، قإنه يتلاشى من جراء هذا الفعل، ويفقد صفته كشعب فحالما يوجد سيد، لا وجود بعد لشعب يتصف بالسيادة"26.
الأمر كذلك في نظر روسولأنه" حتى لو افترضنا أنه في مقدرة كل أحد أن يتنازل عن شخصه، فهو لا يستطيع التنازل عن أبنائه. إنهم يولدون بشرا أحرارا، وحريتهم ملك لهم، وليس لأحد سواهم حق التصرف فيها. في وسع الأب قبل ان يبلغوا سن الرشد أن يحدد باسمهم شروطا لحفظ بقائهم، وتوفير رفاهيتهم، لا أن يهبهم دون رجعة ودون شرط. ذلك لأن مثل هذه الهبة مخالفة لغايات الطبيعة وتتجاوز حقوق الابوة"27
ليس الأهم من إيراد هذه الإنتقادات التي وجهها روسو لأصحاب نظرية "الحق الطبيعي" الوقوف عند ظاهرها ومعناها المباشر، بل الأهم هو ربطها بنظرية السياسية، والكشف عن مضامينها وأبعادها. فمراد روسو من كل ذلك هو الإقرار بمبدإ المشاركة في السيادة والسلطة. أو بعبارة أوضح اقراره بضرورة " الديموقراطية" في المجتمع، التي ليست تعني شيئا سوى المشاركة المباشرة في صياغة التعاقد الاجتماعي السليم، من جهة، والعمل بمقتضيات وأحكام هذا التعاقد من جهة ثانية.
إن ما ينبغي أن لا يغرب عن أذهاننا، إذن- ونحن نتعرض لإنتقادات روسو لكل أولئك-هو أن وراءها دافع "جمهوري" أو "ديموقراطي". فهو يحرص، حرصا شديدا، على الربط بين فعل التعاقد-كصيغة للإجتماع وتنظيم الوجود الاجتماعي- وفاعل التعاقد-أي الشعب-. ومعنى ذلك أن لا مجال، عند روسو، للفصل بين الديموقراطية وممارسة السيادة، ويفصل الشعب عنها. إذ الديموقراطية لن تكون في هذه الحالة سوى شكل بدون محتوى، خاصة إذا هي لم تجعل الشعب نصب أعينها، باعتباره صاحب السيادة أولا وأخيرا. وفي هذا الصدد، فإن روسو يلح على مسألة الممارسة السياسية، ويهتم بالكيفية التي تضمن الى أقصى حد ممكن، المشاركة في السلطة، سواء كانت تلك المشاركة تكون بكيفية مباشرة، أو تأتي عن طريق مراقبة السلطة الحاكمة ومحاسبتها. وعن هذا الموقف الأخير نتجت تصوراته وآراؤه المتعلقة بالإنتخاب وبعملية الإقتراع والتصويت.
إن هذه المسألة-أي تاكيده على الديموقراطية، كمشاركة في السيادة ومراقبة السلطة- تتضح خاصة في رسالته المشهورة عام 1767 إلى المركيز دوميرابو، حيث نبراته المستاءة تفيد رفضه لكل حل وسط بين الديموقراطية-بالمعنى الذي سجلناه أعلاه- وغير الديموقراطية- بمعنى الخضوع والطاعة العمياء للرؤساء والزعماء، ملوكا كانوا أم أمراء أم غير ذلك. يقول: "إذا كان ممكنا إيجاد هذا الشكل ، فلنبحث عنه ولنسعى لإقامته،وإذا لم يكن ممكنا لسوء الحظ، وأنا أعترف بسداجة انه كذلك، فرأيي انه يجب الانتقال للطرف الأقصى الآخر، فنضع الانسان دفعة واحدة فوق القانون، وذلك بالقدر الممكن، ونقيم بالنتيجة حكما استبداديا تعسفيا. يكون تعسفيا الى أقصى حد ممكن. إني أريد أن يكون بإمكان الحاكم المستبد أن يكون إلها. وبكلمة واحدة، فإني لا أرى قط حدا وسطا يمكن تحمله بين الديموقراطية الأكثر صرامة والهوبزية الأكثر كمالا"28.
لنتذكر هنا أن نظرية هوبز السياسية نفسها ، لم تفلت من نقد روسو، باعتبار أن الصيغة التي اقترحها هوبز للتعاقد تفترض طرفين: طرف متعاقد وآخر متعاقد معه. الأول ماهو إلا جمهور الشعب وقد تنازل بكيفية ارادية عن حقوقه كاملة، والثاني يمثل الشخص أو الجمع الذي لفائدته يتم التنازل عن تلك الحقوق، والذي ليس شيئا آخر عند هوبز سوى "التنين /"Léviathan". صاحب السيادة والسلطة الأسمى على أيها شيء. إذ تمتد حقوق سيادته من حق سن القوانين، الى حق الإشراف على تنظيم الملكية وتقنينها، بل الى حق الحكم في مساوئ وحسنات المذاهب والآراء والديانات. وبكلمة واحدة: من التحكم في الرقاب الى التحكم في الأرواح والنفوس29.
وكخلاصة لكل ما سبق، نقول: إنه سواء تحدثنا عن المجتمع أو عن الحياة داخل هذا المجتمع: أي " الحياة المدنية" بكل عناصرها من حرية، ومواطنة، وديموقراطية، وأخلاق... الى غير ذلك، عند روسو، فإننا نكون ملزمين باستحضار ماكان روسو يرومه ويقصده. أي وصف هذه الحياة، كحياة تجري في فضاء مخالف لفضاء الكنيسة، وذاك الذي حاول الى جنبها أصحاب نظرية "الحق الإلهي" رسمه وتشييده، من جهة أولى، ووصف هذه الحياة ( بل الدعوة اليها) في زمان مغاير لزمان مؤسسات النظام المطلق الذي حاول فقهاء "الحق الطبيعي" وبعدهم هوبز، إلى جانب الطغاة المستبدين، إنشاءه، والمحافظة عليه، من جهة أخرى.
إن روسو في انشغاله بصياغة التعاقد الاجتماعي الحقيقي والسليم، وفي انشغاله بالتشريع للأحكام الملائمة لهذا التعاقد، الى هذا المرمى وهذا المعنى كان يقصد. وتلك هي المسألة التي تؤكدها أول فقرة يستهل بها مؤلفه" في العقد الاجتماعي"، حيث يقول:" أريد البحث في ما إذا كان ممكنا أن يوجد في النظام المدني قاعدة للحكم شرعية وثابثة باعتبار البشر كماهم، والقوانين كما يمكن أن يكون"30.
إن روسو "منذ الجملة الاولى من التعاقد الاجتماعي يريد (...) من قارئه أن ينتبه الى أن العملية كلها تجري داخل النظام المدني، أي داخل ما يعتبر النقيض الفعلي للنظام الديني أو الكنسي"31. وماكان ليتم له ذلك دون تقويض هذا الأخير، وكل ما يمت له بوشائج القربى، أي النظام المطلق أو الحكم المطلق، المؤسس على مبدإ "الحق الطبيعي". أو بعبارة أوضح: ما كان ليتم له ذلك دون تنظيف "القماش السياسي مما فيه من جوانب لا معقولة". لكن ينبغي أن لا تغرنا هذه الكلمة الأخيرة: فليس ذلك يعني أن روسو قد أقام كل شيء بطريقة عقلانية، فهي عقلانية بالقدر الذي ظلت فيه معبرة عن طموحات ورغبات البرجوازية الصاعدة في ذلك الوقت.
وحتى لا نطيل الكلام في هذه المسألة، نشير إلى أنه بإمكان المرء إيجاد مجموعة من المفاهيم –المرتبطة أساسا بنظرية روسو السياسية تعبر عن طبيعة البعد "العقلي" أو "العقلاني" هذا عند روسو. مفاهيم مشحونة بدلالات ومعاني ترسم معالم ذلك البعد، ومحملة بمضامين تبين حدوده وطبيعة مغزاه الايديولوجي. بإمكان المرء أن يستشف ذلك كله بالوقوف عند كل من مفهوم "المساواة" ومفهوم "الملكية"، وكذا ما يتصل بهما من مفاهيم أخرى ك"المصلحة العامة" أو المنفعة العامة" كما يسميها روسو في بعض الأحيان... وغيرها كثير.
إن ما ينبغي أن لا نغفله دائما، ونحن نقرأ روسو، هو أنه، وهو يريد –كما قال- البحث عن "القاعدة الشرعية والثابثة للحكم المدني"، يريد في ذات الوقت، الجمع "بين ما يسمح به الحق وما تمليه المصلحة، حتى لا تكون العدالة والمنفعة قط على طرفي نقيض"32.
وإذا كان "لوك" في مؤلفه "في الحكم المدني" "أكثر صراحة في القول وأكثر وضوحا في المقصد والعبارة عند الحديث عن تلك الكيفية التي لا تكون بموجبها العدالة والمنفعة على طرفي نقيض"33، كونه يصرح، بأن لا معنى للحديث عن مبدأ "التعاقد"، بل ولا معنى لقيام "المجتمع المدني"، و"القوانين"، ما لم يضع ذلك التعاقد، وذال المجتمع وتلك القوانين نصب الأعين هذه المهمة النبيلة: المحافظة على "الملكية الخاصة"34. قلنا إذا كان لوك صريحا وواضحا. فإن موقف روسو يشو به بعض الغموض. لكن ما هو ثابت هو أن روسو لا يخرج عما ما ذهب إليه "لوك". بالرغم من كونه في مؤلفه "أصل التفاوت بين البشر" قد استبشع واستهجن حق الملكية، وبالرغم من كونه في مؤلف "العقد" يقر بضرورة "الاستلاب الشامل الذي هو الضامن لاسترجاع ما انتزع من الانسان في "حالة الطبيعة"، أي بالإرادة العامة. فهو بدوره يقول –بكيفية أو بأخرى- بقداسة هذا الحق. ولا يخرج قط ما ذهب إليه معاصريه الذين لم يستطيعوا فهم "كيف يمكن أن يكون الإنسان (في المجتمع المدني) غير مالك إطلاقا"، إذ هذا الحق "يعني تأشيرة الدخول إلى ذلك المجتمع"35.
وما يؤكد ذلك هو أن معنى المساواة عند روسو، لا يفيد غير ذلك. فالمساواة التي ينادي بها لا تتجاوز كونها "مساواة على مستوى الحق، وفكرة العدالة" أي الالتزام بنفس الشروط والتمتع بنفس الحقوق. وبالرغم من كون روسو لا يحدد طبيعة هذه الشروط وهذه الحقوق وعلى أي مستوى. فإنه بإمكاننا العثور على ذلك في نص له، في مؤلف "العقد"، يفيد بكيفية قطعية، بأنها ليست إلا مساواة أمام القانون لا في الاقتصاد أو ما شابه ذلك. يقول بعد بعد تعريفه ل"ماهية الحرية المدنية": "أما بخصوص المساواة، فلا يجب أن يفهم من هذه اللفظة، التعادل المطلق، وبالمعنى الضيق، في درجات القوة والثروة. إنما هي تعني ألا تصل القوة إلى درجة العنف وألا يستعمل إلا بموجب الخطة والقوانين. وأن تكون الثروة موزعة بشكل يستحيل معه على أي مواطن أن يصل إلى درجة العنف وألا تستعمل إلا بموجب الخطة والقوانين. وأن تكون الثروة موزعة بشكل يستحيل معه على أي مواطن أن يصل إلى درجة من الفقر ترغمه على بيع نفسه. الأمر الذي يفترض لدى اليسار اعتدالا في الثروة والجاه، ولدى رقاق الحال اعتدالا في المجتمع والطمع"36.
إن روسو إذن "بالرغم من كونه، قد استبشع "الملكية الفردية" في "أصل التفاوت" واعتبر ظهورها مصدر كل الشرور، وخطوة نحو انحطاط النوع البشري. فإنه لم يذهب إلى حد القول بضرورة إلغائها وتحطيمها. بل اكتفى فقط بالقول بضرورة جعلها "شرعية" ومبنية أساسا على أسس "عقلانية" و "قانونية"37.
إن النزعة الجذرية للنظرية السياسية الروسوية، إذن بالرغم مما تحويه داخلها من عناصر الجدة، تفوق في بعض جوانبها، أطروحات أسلافه ومعاصريه على السواء. إن هذه النزعة بالرغم من ذلك تبقى محدودة، ويتضح ضيق هذه الحدود لكل منكب على دراسة متمعنة للنظرية السياسية الروسوية، وحتى إن استمت بجرأة خارقة على المستوى النظري، ونقدها لأسس النظام القديم، في عجزها –من جراء طبيعتها، كمعبرة عن رغبات وتطلعات البرجوازية الناشئة على تخطي وتجاوز اطار العلاقات البرجوازية في تصورها للزمن الآتي أي لما ينبغي أن يكون.
فروسو، في نظريته تلك، يتقدم بمبدأ التعاقد وكأنه يهدف إلى تقويض دعائم كل نظام يقوم على الاستبعاد والاسترقاق والاستغلال، أو بلغة اليوم، وكأنه يهدف إلى تقويض كل بنية يفترض فيها أنها طبقية. غير أن أطروحته في كل الأحوال لا تقترح على الصعيد العملي، وعلى أرض الواقع، سوى مجتمع طبقي تحيطه بهالة من المثالية. ولا غرابة أن يكون "ملكوت العقل" ومقولة "العدالة الأبدية"، و "القاعدة الشرعية والثابثة للحكم المدني" التي قضت مضجعه، اتضحت في نهاية المطاف على أنها، ملكوت للبرجوازية في ثوب من المثالية، وقاعدة ملفوفة في عباءة من الوقار الكاذب.
"في عام 1789، كان البورجزازيون لا يزالون قادرين على أن يكونوا ثوريين كبارا. أما عام 1848، فقد أصبحوا موضع سخرية وشفقة".
لينين-Linine
لقد انتهينا في الفقرة الأخيرة من الفصل الأخير من هذا البحث، الى القول بأن نظرية روسو السياسية تظل رغم جرأتها النظرية الخارقة عاجزة على تخطي العلاقات البورجوازية في تصورها لنظام الغذ الاجتماعي. ونحن حينما أطلقنا ذلك الحكم، لم يكن ذلك من المبالغة في شيء. إذ تبقى تلك الفكرة هي نفسها التي يؤكدها السواد الأعظم من المهتمين بفكر القرن الثامن عشر، خاصة منهم الذين تأملوا لحظة ما يقوله ذلك الفكر من حيث مضمونه الايديولوجي وأبعاده السياسية والاجتماعية.
وذلك لا ينطبق على نظرية روسووحدها، بل ينسحب ويصدق على ايديولوجيا الأنوار في مجموعها. هذه الايديولوجيا التي ليست –كما سبقت الإشارة الى ذلك-سوى ايديولوجيا البورجوازية الصاعدة آنذاك: يقول "التوسير" في مقالته "الايديولوجيا واللاشعور": "عندما طورت 'الطبقة الصاعدة' البورجوازية، خلال القرن الثامن عشر، الايديولوجيا الانسانية حول العدالة والحرية والعقل، فإنها أعطت لمطلبها الخاص صورة الشمولية، كما لو أنها بذلك تود أن تعبئ الى جانبها الناس أنفسهم الذين لن تحررهم إلا لتستغلهم وذلك بإعدادهم وتكوينهم لهذه الغاية.وتلك هي أسطورة روسوحول أصل التفاوت: فالأغنياء يوجهون الى الفقراء " الخطاب الأكثر معقولية"، الخطاب الذي لم يتصور من قبل أبدا. وذلك لإقناعهم بأن يعيشوا عبوديتهم وكأنها حريتهم.وفي الحقيقة فإن على البورجواية ان تعتقد في اسطورتها قبل أن تقنع الآخرين بها، لا بمجرد الإقناع فقط. لأن ما تحياه في ايديولوجيتها هو هذه العلاقة التخيلية التي تقيمها مع ظروف وجودها الواقعية، مما يمكنها في نفس الوقت من أن تؤثر على نفسها (...) وعلى الآخرين (...) وذلك من أجل أن تتحمل وتنجز وتضطلع به بدورها التاريخي كطبقة سائدة"1.
لكن لماذاأعطت ايديولوجيا الأنوار وبالأخص نظرية روسو السياسية، حينما طورت مضامينها "لمطلبها الخاص صورة الشمولية؟ أو بعبارة أوضح: لماذا لم تستطع نظرية روسو السياسية تخطي العلاقات البورجوازية في تصورها للنظام الاجتماعي الآتي-بالرغم من أن مؤلف" الاعترافات" يقدم لنا روسو، كواحد من "الفلاسفة"الذين تعاطوا الحزن بالاقراص، والحقد بالحقن، والفقر بالوراثة"كواحد من "الفلاسفة"الذين عركتهم الأحداث وربتهم المصائب، أو كما يقول نفسه: كواحد"سلخ في الضيق معظم الأيام"2؟ أي لماذا لم يتجاوز في أطروحته عتبة حل "التعاقد الاجتماعي"ولما ينبغي أن يكون عليه "المجتمع الجديد"؟
ربما قد تكون هذه المسألة التي طرحناها، من باب المطالبة بالمستحيل، ذلك أن التاريخ لا يرحم، من جهة، ومن جهة ثانية: لأن روسو، بالرغم من أنه لم يكن يتمتع ولو بالقليل من الامتيازات التي كانت تتمتع بها البورجوازية في ظل النظام الإقطاعي، لم يكن، بحكم طبيعة هذا الأخير، ليتمكن من ادراك الحد الفاصل بين مصالح البورجوازية ومصالح الجماهير من الفلاحين والعمال، الذين ما فتئوا يبدأون في تشكيل "طبقة" ستتميز معالمها في ما بعد. إن "الحد الفاصل بين مصالح البورجوازية، ومصالح الجماهير الشعبية كان أقل بروزا ووضوحا من حاجة الطرفين المشتركة الى الإطاحة بالنظام الإقطاعي والإستبدادي"، بل إن "صورة الإقطاعية كعدو أساسي ومشترك لم تكن تمثل السمة المميزة للتصورات الاجتماعية والسياسية للبورجوازية فحسب، وإنما كانت تعكس أيضا ذهنية الجماهير الشعبية التي لا سبيل لدحر الإقطاع بدونها". وهكذا ف"على الرغم من وجود تناقضات بين مصالح البورجوازية ومصالح الجماهير الشعبية، فقد توفرت الشروط المسبقة لدخول البورجوازية حلبة النضال لا بوصفها مدافعة عن مصالحها الخاصة فحسب وإنما أيضا بوصفها مدافعةعن مصالح الشعب برمته3". وتلك مسألة طبيعية، وليست من الشذوذ في أي شيء. إذ أن "الطبقة الثورية- كما يلاحظ ماركس وإنجلز في نص " الايديولوجيل الألمانية"- لا تطرح نفسها كطبقة وإنما كممثلة للمجتمع برمته4".
لا غرابة، إذن، أن تتحول ايديولوجيا الأنوار، وخاصة قطب الرحى فيها،أي نظرية روسو السياسية، بعد الثورة الفرنسيةالتي بموجبها وصلت البورجوازية الى السلطة، من ايديولوجيا ثورية حملت على عاتقها –وباسم المصلحة العامة للأمة-تفكيك بنية تصور العالم الذي رسخه النظاو القديم في الأذهان وهدمها، الى ايديولوجيا تبريرية مضجرة، بعد أن حققت البورجوازية مطامحها وتحولت الى طبقة محافظة، لا هم لها سوى الدفاع عن مصالحها الذاتية التي أصبحت "مصالح خاصة" بعد أن كانت "مصالح عامة" ، في مرحلة صعود هذه الطبقةحينما كانت تتزعم "الفئة الثالثة Le tiers état" في صراعها ضد الإقطاع.
لكن هل هذا يعني، أن ايديولوجيا الأنوار، ونظرية روسو تخصيصا وتحديدا، قد عفى عليها الزمن، وتجاوزها التاريخ؟ هل هذا يعني أن نظرية روسو، بكل أبعادها وامتداداتها السياسية والاجتماعية فقدت قوتها وحصافتها؟ هل هذا يعني أن تلك النظرية قد فقدت صلاحيتها؟
حتى لا نطيل الكلام في هذه الخاتمة-كخاتمة- نقول بكل اختصار شديد: إن نظرية روسو السياسية، وحتى إن لم تكن كلها، فعلى الأقل نواتها أي فكرة "التعاقد الاجتماعي"، لا تزال تفرض نفسها بقوة في الحقل السياسي، بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت لها، وبالرغم من الهجومات التي شنت ضدها : فبالرغم من أن الفكر السياسي الراهن قد تجاوز تلك الفكرة، بل حتى اشكاليتها تماما كما تجاوز التطور التاريخي نمط و أسلوب الانتاج البورجوازي، من جهة، وبالرغم من أن الفكر قد أبرز ما تضمنته تلك الفكرة من "تعميم لا مشروع لمقتضيات حقبة تاريخية معينة"، من جهة ثانية. وبالرغم من أن هذا الفكر قد اكتشف مبادئ تلك الفكرة واعتبرها في نهاية التحليل مبادئ مطلقة ومنبثقة أساسا من "طبائع الأشياء" و"قوانين العقل"، من جهة ثالثة. بالرغم من هذا كله، فإن نظرية روسو السياسية لا تزال تحتفظ بالكثير من متانتها وقوتها، على الاقل بالنسبة الى تلك البلدان التي لم تضطلع فيها "بورجوازيات"ها بدورها التاريخي،كما اضطلعت به مثيلاتها في أوروبا. إنها لا تزال تتمتع بحصافتها وصلاحيتها. على الاقل بالنسبة لتلك البلدان التي تداس فيها حقوق الإنسان، الطبيعية، والمدنية، والسياسية...بكيفية يحس فيها المرء، وكأنه لا يزال يعيش في عصر أبعد بكثير من عصر الأنوار؛هذا العصرالذي تخطته أوروبا- وعلى جميع الأصعدة بامتياز. إن ايديولوجيا الأنوار، ونظرية روسو السياسية كرافد مهم لها، من حيث هي ايديولوجيا قد ساهمت بكيفية فعالة- الى جانب عوامل أخرى كثيرة- في تقويض دعائم بنية الفكر السياسي التقليدية، وإفقاد هذا الأخير قوته، والتضييق من صلاحية مقولاته، وتبيان عقمه؛ إن هذه الايديولوجيا لا تزال صالحة بالنسبة لتلك البلدان، لا يزال مثل ذلك الفكر ينتعش فيها ويجد من يعيد انتاجه وترويجه وتسويقه، وترسيخه في الأذهان. بل قد لا نبالغ إذا قلنا بأنها – أي الايديولوجيا الأنوارية- ستظل "الشكل الوحيد من الفكر الغربي القابل للإستيعاب في الأجواء الثقافية (التقليدية)... التي لم تعرف العصر العلمي التقني للانوار ولا المغامرة الجدلية للفكر...5"%
قائمة المصادر والمراجع:
بالعربية:
1- "أصل التفاوت بين الناس" ج ج روسو. ترجمة: بولس غانم بيروت 1972.
2- "في العقد الاجتماعي" ج ج روسو . ترجمة عمارة الجلاص وعلي الأجنف. تونس 1980.
3- "الإعترافات"ج ج روسو. ترجمة: خليل رامز سركيس. بيروت1982.
4- ج ج روسو: حياته، مؤلفاته، غرامياته". نجيب المستكاوي. دار الشروق 1989. القاهرة.
5- "تاريخ الفكرالسياسي" ج ج شوفالييه. ترجمة: د محمد عرب صاصيلا المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.بيروت 1985.
6- "تاريخ الفكر السياسي" ج توشار وآخرين. ترجمة: د علي مقلد. الدار العالمية. 1982.
7- "فلسفة الأنوار". ف. فولغين. ترجمة: هنريت عبودي. دار الطليعة بيروت 1981.
8- "الثورة الفرنسية وامتدادتها"ر.بالمر. ترجمة: هنريت عبودي. دار الطليعة.بيروت 1982.
9- "توماس هوبز: فيلسوف العقلانية"د. امام عبد الفتاح. دار التنوير للطباعة والنشر. بيروت 1985.
10- "مفهوم الايديولوجيا" عبد الله العروي. دار التنوير للطباعة والنشر بيروت.1984.(الطبعة الثالثة).
11- "تراث الانسانية" الجزءI. مقال:د. حسن سعفان " العقد الاجتماعي" المجلد الاول. وزارة الثقافة والإرشاد القومي-مصر . بدون تاريخ.
12- "تاريخ الحضارات العام" الجزء الخامس. القرن 18. عويدات- بيروت 1968.
13- مجلة "الفكر العربي المعاصر" العدد24 السنة 1983.
14- مجلة" الفكر العربي المعاصر" العدد56-57. السنة 1988.
15- مجلة "الهدف" العدد815. السنة 1986.
بالفرنسية:
1- « Du contrat social »JJ Rousseau. Préface et note de J.L. Le cercle. Éditions sociales. Paris.
2- « Lettre à D’Alembert sur les spectacles » JJ Rousseau. Notices et notes par L.Flondrin.Ed : Librairie Hatier Paris. Sans date.
3-« Les grandes œuvres politiques, de Machiavel jusqu’à nos jours »JJ Chevalier. Ed : Colin .Paris. 1970
4-« Jean Jacques Rousseau et la science politique de son temps » Robert Dérathé. P.U.F ; Paris .1950.
5-« Histoire de la philosophie » T. II. Emile Berhier. 4em Ed. PUF. Paris.
6-« Naissance de la politique moderne : Machiavel Hobbes, Rousseau » Pierre Maneut. Payot. 1977.
7-« Pensée de Rousseau » Receuil réalisé sous la diréction de Gerard Genette et Tzretan Todoror . Etudes de : P. Binichou, E, Cassier, Robert Derathé, Ch. Eisenmann, L-Strauss, V. Goldchmidt, Eric Weil. Ed : Seuil. 1984 Paris.
8- “Philosophie de la revolution française” B; Grothuysen Ed : Gallimard- tel ; Paris ;1982.
9-La philosophie des lumieres » E ; Cassirer. Traduit de l’allmend et présenté par Pierre Quillet. Agora. Paris 1966.
10-« J.J.Rousseau : La transparence et l’obstacle » J. Starabonski ;Ed. Gallimard-Tel. 1971.
11-Histoire des ideologies » T III. Sous la direction de François Chatelet. Hachette. 1978.
12- « J. J. Rousseau sa vie, son œuvre, sa philosophie » A. Gresson P.U.F.Paris 1950.
13-« La politique de J ; J ; Rousseau » Kraft Olivier librairie générale de droit et de jurisprudence. Paris1958.
14-« La pensée de J. J. Rousseau » Albert Schinz ; librairie félix Alcan ;1